صفحة جزء
( نزل عليك الكتاب بالحق ) ( الكتاب ) هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيرا ، والمراد القرآن ، فصار علما ، بالغلبة ، وقرأ الجمهور ( نزل ) مشددا و ( الكتاب ) بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة ( نزل ) مخففا ، و ( الكتاب ) بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة ، والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : ( عليك ) ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصا له وتشريفا بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء ، كأن الكتاب تجلله وتغشاه صلى الله عليه وسلم ، ومعنى ( بالحق ) بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة ، الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة .

وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير ، وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية ، وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية ، وقيل : معنى ( بالحق ) بالحجج والبراهين القاطعة .

والباء تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقا نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحا .

( مصدقا لما بين يديه ) أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقا ، وهو يدل على صحة القرآن ؛ لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم ، وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبيا قط ، إلا بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان ، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخا لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن ، فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقا لها ؛ لأن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف . وانتصاب ( مصدقا ) على الحال من [ ص: 378 ] الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال :


أنا ابن دارة معروفا به نسبي وهل بدارة يا للناس من عار



وقيل : انتصاب ( مصدقا ) على أنه بدل من موضع ( بالحق ) وقيل : حال من الضمير المجرور ، و ( لما ) متعلق بـ ( مصدقا ) واللام لتقوية التعدية ؛ إذ : مصدقا ، يتعدى بنفسه ؛ لأن فعله يتعدى بنفسه ، والمعنى هنا بقوله ( لما بين يديه ) المتقدم في الزمان ، وأصل هذا أن يقال لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه ، كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد .

( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ) فخم راء ( التوراة ) ابن كثير وعاصم وابن عامر ، وأضجعها أبو عمرو والكسائي ، وقرأها بين اللفظين حمزة ونافع ، وروى المسيبي عن نافع فتحها ، وقرأ الحسن ( والأنجيل ) بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ؛ لأن أفعيلا ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت .

وتعلق ( من قبل ) بقوله : ( وأنزل ) والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك ، وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول ، وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ؛ إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية .

وقال الزمخشري فإن قلت : لم قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ قلت لأن القرآن نزل منجما ، ونزل الكتابان جملة ، انتهى . وقد تقدم الرد على هذا القول ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر ) و ( وأنزل عليك الكتاب ) ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ( ما كان ممن ينزل ) مشددا بالتخفيف ، إلا ما استثني ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار ، وهو محال .

( هدى للناس ) قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل ، والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن ؛ لأنه مصدر ، وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله : ( من قبل ) ثم استأنف فقال : ( هدى للناس وأنزل الفرقان ) فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا ( الفرقان ) القرآن ، وهذا لا يجوز ؛ لأن ( هدى ) إذ ذاك يكون معمولا لقوله : ( وأنزل الفرقان هدى ) وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيدا ، مجردة وضربت هندا ، تريد وضربت هندا مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال ، وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصا ، إذ لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدى في ذاتهما ، وأنهما داعيان للهدى ، فيكون الناس عاما ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس ، وقيل : الناس قوم موسى وعيسى ، وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام ، قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمي على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى ( وهو عليهم عمى ) أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقول نوح : ( فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) انتهى .

قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدى ؛ لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى . قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ؛ لأن هذا خبر مجرد ، و ( هدى للمتقين ) خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في [ ص: 379 ] القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معد أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك .

قال ابن فورك : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، انتهى كلام ابن عطية ، وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام .

وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) وبين قوله : ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ) .

( وأنزل الفرقان ) ( الفرقان ) : جنس الكتب السماوية ؛ لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور ، كما قال تعالى : ( وآتينا داود زبورا ) أو ( الفرقان ) : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله ، واختار هذا القول الأخير ابن عطية ، قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى ، عليه السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه ، وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل : ( الفرقان ) النصر ، وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بـ ( الفرقان ) هنا المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب ؛ لأنهم إذا ادعوا أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ؛ لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان ، وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل ، وقيل : ( الفرقان ) هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل .

فهذه ثمانية أقوال في تفسير ( الفرقان ) ، و ( الفرقان ) مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق ، قال تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) .

( إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ) لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر ، والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار ، و ( الذين كفروا ) عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران ، وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم .

( والله عزيز ذو انتقام ) أي : ممتنع أو غالب لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدم أن الوصف بذو أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجئ في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلا للعقاب ، وهي من صفات الفعل ، قال الزمخشري : ( ذو انتقام ) له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم ، انتهى . ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية