صفحة جزء
( إن الدين عند الله الإسلام ) أي : الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر . قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ، وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلا هو : توحيد ، وقوله : قائما بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام ، فقد أذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين لله الذي هو الإسلام ، وهذا بين جلي كما ترى ، انتهى كلامه . وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى . وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من [ ص: 408 ] الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل ، وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل .

وقال : وإن شئت جعلته بدلا من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضا من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو ، خرجه غيره أيضا وليس بجيد ; لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو ، وبنو تميم ، وبنو دارم ملاقيا للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة . وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقا أختك . فحنقا : حال من زيد ، وأختك : بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز . وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل . وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين [ ص: 409 ] المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزا وعمرو وسمكا . وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبزا وسمكا . فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكا ، يحصل شنع التركيب ، وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح . وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بيانا صريحا ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل انتهى . وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء . وأما قراءة ابن عباس فخرج على أن الدين عند الله الإسلام ؛ هو معمول شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ( أنه لا إله إلا هو ) والثاني : بين المعطوف والحال ، وبين المفعول لـ " شهد " وهو ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) وإذا أعربنا : العزيز خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها .

وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بد من الاطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى ( من لدن حكيم خبير ) وقال ( من لدن حكيم عليم ) والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدين عند الله الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ، ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) وعدل عن صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك . فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلا بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في أليم : إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر :


أمن ريحانة الداعي السميع



أي المسمع ؟

فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلا يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤول أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور [ ص: 410 ] والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحول من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جدا ، خارج عن الحصر : كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضا فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلا أنه محول للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم ) أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة : ( والله عزيز حكيم ) فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكيم أنه محول للمبالغة من حاكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جدا ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات العقدة التي ينزه كتاب الله عنها . وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول : ولا نجعل أن الدين معمولا : لـ " شهد " ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلا هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن " شهد " ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراء لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت : ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتا ، فإنك تقول : شهدت إن زيدا لمنطلق ، فيعلق بإن مع وجود اللام ; لأنه لو لم تكن اللام لفتحت إن فقلت : شهدت أن زيدا منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق . ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا .

والإسلام هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال . وقرأ عبد الله : إن الدين عند الله الحنيفية . قال ابن الأنباري : ولا يخفى على ذي تمييز ، أن هذا كلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أم هما مختلفان ؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل .

( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة : فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا في التوراة . قال : لما حضرت موسى - عليه السلام - الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم . وقيل : الذين اختلفوا في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق . وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : [ ص: 411 ] دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام . ثلاثة أقوال . وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد ، والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أميون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير لله تعالى انتهى . ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد - عليه السلام - حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى انتهى . والذي يظهر أن اللفظ عام في ( الذين أوتوا الكتاب ) وأن المختلف فيه هو الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان .

( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاستئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهبا يخالف الإسلام حتى يصير رأسا يتبع فيه ; فكانوا ممن ضل على علم . وقد تقدم ما يشبه هذا من قوله ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ) . ( بغيا بينهم ) وإعراب : بغيا ، فإنه أتى بعد إلا شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا .

( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) هذا عام في كل كافر بآيات الله ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم . وآياته هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي : من المختلفين . وتقدم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على اسم الشرط محذوف تقديره : سريع الحساب له .

التالي السابق


الخدمات العلمية