صفحة جزء
( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ) الضمير في : حاجوك ، الظاهر أنه يعود على ( الذين أوتوا الكتاب ) وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ) وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة . وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ; لأنه السابق . وجواب الشرط هو : ( فقل أسلمت وجهي لله ) والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت لله وحده ، وعبر بالوجه عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ; لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال : أقول لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق ( قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) . وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي لله وحده ، لم أجعل له شريكا بأن أعبده وأدعو إلها معه ، يعني أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي . وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ) الآية ، فهو دفع للمجادلة انتهى .

وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معا ، إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك . وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار بالمعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله : ( الحي القيوم ) على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله : ( نزل عليك الكتاب ) على صحة نبوته ، وذكر شبه القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، وبين القول بالتوحيد بقوله : شهد الله . والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة [ ص: 412 ] فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات . وأيضا كانوا معظمين إبراهيم - عليه السلام - وأنه كان محقا ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضا لما تقدم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضا فالآية مناسبة لقولإبراهيم ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) أي : لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا وضارا وقادرا على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضا فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم - عليه السلام - إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وروي هذا عن ابن عباس انتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها . وفتح الياء من " وجهي " هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون .

( ومن اتبعن ) قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : في موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفا على اسم الله . ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه وصحته . فأما الرفع فعطفا على الفاعل في أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعني أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا في الشعر على رأي البصريين . إلا أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن . وقاله ابن عطية أيضا ، وبدأ به . ولا يمكن حمله على ظاهره ; لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفا وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو - صلى الله عليه وسلم - وجهه لله ، وإنما المعنى : أنه - صلى الله عليه وسلم - أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه . أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك . أي : قضى نحبه . ومن الجهة التي امتنع عطف " ومن " ، على الضمير ، إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل يمتنع كون من ، منصوبا على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفا وعمرا ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية . وأثبت ياء اتبعني في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن و أهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر :


وهل يمنعني ارتياد البلا د من حذر الموت أن يأتين



[ ص: 413 ] ( وقل للذين أوتوا الكتاب ) هم : اليهود والنصارى باتفاق ( والأميين ) هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له . ( أأسلمتم ) تقدير في ضمنه الأمر . وقال الزجاج : تهديد . قال ابن عطية : وهذا أحسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته ، هل فهمتها لا أم لك ؟ ومنه قوله - عز وعلا : ( فهل أنتم منتهون ) بعدما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ; لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ، ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ، ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة ، وفي ( فهل أنتم منتهون ) بالتقاعد عن الانتهاء ، والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه انتهى كلامه . وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة .

( فإن أسلموا فقد اهتدوا ) أي : إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بـ " قد " الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور انتهى .

( وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلا تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم ، وانتظامهم في عبادة الله وحده ، وقيل : إنها آية موادعة منسوخة بآية السيف ، وتحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتال وغيره .

( والله بصير بالعباد ) . فيه : وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ; إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية