صفحة جزء
( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ) تقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : ( يعلمه الله ) وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك .

( ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ) هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكورا مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض .

( والله على كل شيء قدير ) فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدورهم . وقال الزمخشري : وهذا بيان لقوله ( ويحذركم الله نفسه ) لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلاحق به العذاب انتهى . وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة لله تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات .

( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) [ ص: 426 ] اختلف في العامل في : " يوم " ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضا : العامل فيه : المصير . وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضا : فيه مضمر تقديره ، اذكر . وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ; لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه بالمصير ; للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه بقدير ; لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائما . وأما نصبه بإضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل . وقال الزمخشري : ( يوم تجد ) منصوب : بـ " تود " ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا انتهى هذا التخريج .

والظاهر : في بادئ النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميرا عائدا على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين إلى جواز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بـ " تود " ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تود ، وهو : " يوم " ، لأن : " يوم " ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود . وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ; لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ; ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيدا ضرب ، وزيدا ظن قائما . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر :

[ ص: 427 ]

أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني



أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر . وتجد : الظاهر أنها متعدية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضرا ، منصوبا على الحال . وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدى إلى اثنين ، وينتصب : محضرا على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه .

قيل : ومعنى : محضرا على هذا موفرا غير مبخوس . وقيل : ترى ما عملت مكتوبا في الصحف محضرا إليها تبشيرا لها ; ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل . وقرأ الجمهور : محضرا ، بفتح الضاد ، اسم مفعول . وقرأ عبيد بن عمير : " محضرا " بكسر الضاد ، أي محضرا الجنة أو محضرا مسرعا به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع . وما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفا على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدى إلى واحد محذوفا ، أي : وما عملت من سوء محضرا . وذلك نحو : ظننت زيدا قائما وعمرا ، إذا أردت : وعمرا قائما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تود ، مستأنفا . ويجوز أن يكون : تود ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها ، وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائدا على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضرا له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز ; إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتود تباعده لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير .

والأولى عوده على ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف ما عملت من سوء ، على ما عملت من خير ، وكون تود ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء . وتود : جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ [ ص: 428 ] الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون وما عملت من سوء ، شرطا . قال الزمخشري : لارتفاع " تود " . وقال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضي جزمه ، اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تود ، وفي ذلك ضعف انتهى كلامه .

وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تود ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه الله ، واستشكل قول الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز ؛ غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير :


وإن أتاه خليل يوم مسألة     يقول لا غائب مالي ولا حرم



وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى ( بالتذكرة ) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك بعد أن نقدم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضيا ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وإن قام زيد يقم عمرو . فأما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا نعلم في جواز ذلك خلافا ، وأنه فصيح ، [ ص: 429 ] إلا ما ذكره صاحب كتاب ( الإعراب ) عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كان ، لقوله تعالى ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها . وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق :


دست رسولا بأن القوم إن قدروا     عليك يشفوا صدورا ذات توغير

وقال أيضا :


تعال فإن عاهدتني لا تخونني     نكن مثل من يا ذئب يصطحبان



وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضا :


وإن سل ريعان الجميع مخافة     يقول جهارا ويلكم لا تنفروا



وقال أبو صخر :


ولا بالذي إن بان عنه حبيبه     يقول ويخفي الصبر : إني لجازع



وقال الآخر :


وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه     تشوف أهل الغائب المتنظر



وقال الآخر :


وإن كان لا يرضيك حتى تردني     إلى قطري لا إخالك راضيا



وقال الآخر :


إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا     في الجهد أدرك منهم طيب أخبار



فهذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف ( وصف المباني ) - رحمه الله : لا أعلم منه شيئا جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدم الماضي أو تأخر ، وتأول هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر :


إنك إن يصرع أخوك تصرع



على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة . وأما المتقدمون : فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم . وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده . وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضيا ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان .

وتلخص من هذا الذي قلناه أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا ، لكن امتنع [ ص: 430 ] أن يكون : وما عملت ، شرطا لعلة أخرى ، لا لكون : تود مرفوعا ، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منويا به التقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .

فإن قلت : لم لا يجوز ذلك ، والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيدا غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير . فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ; لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف ضرب زيدا غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هندا ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ; لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين .

ولا يحفظ من لسان العرب : أود لو أني أكرمه أيا ضربت هند ; لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره .

وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : من سوء ودت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودت ، جزاء الشرط . قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ; لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة انتهى .

و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، وأن : وما بعدها في موضع مبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس . وأما على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا ; لولايتها أن ، وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا قليلا ، كقوله تعالى ( مثل ما أنكم تنطقون ) والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتود ، في موضع المفعول به . قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا ، ذلك معناه . ومعنى أمدا بعيدا : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب .

( ويحذركم الله نفسه ) . كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله ، بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه .

( والله رءوف بالعباد ) لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجا للقلوب ، ومنبها على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة ، اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ; ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : ( إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة [ ص: 431 ] التخويف ; لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصا بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت اسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذ الوصف محتمل ضميره تعالى وجاء المحكوم به على وزن " فعول " المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رءوف ، وجاء متعلقه عاما ; ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ; ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه .

قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه ، وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ; لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا ؛ دعاهم ذلك إلى طلب رضاه ، واجتناب سخطه . وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمى من أمرهم . وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضا ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع ؛ لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن .

( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) . نزلت في اليهود ، قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) أو : في قول المشركين : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قالوا ذلك ، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم " وكلا هذين القولين عن ابن عباس .

وقال الحسن ، وابن جريج : في قوم ، قالوا : إنا لنحب ربنا حبا شديدا . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حبا لله انتهى .

ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله ، فمحبة العبد لله عبارة عن ميل قلبه إلى ما حده له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته . رتب تعالى على محبتهم له ، اتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن الله ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام الله في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به ، احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى .

وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب . وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء ، والياء ، من " حب " ، وهما لغتان ، وقد تقدم ذكرهما . وذكر الزمخشري أنه قرئ : يحبكم ، بفتح الياء ، والإدغام .

وقرأ الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد ، وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبها : بـ " أتحاجوني " ، وهذا توجيه شذوذ . قال الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل ، فمن ادعى محبته ، وخالف سنة رسوله ، فهو كذاب ، وكتاب الله يكذبه .

ثم ذكر من يذكر محبة الله ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب ، وينعر ، ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه .

وروي عن أبي عمر إدغام راء ، ويغفر لكم : في لام : لكم ، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرواسي ، والكسائي ، والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو ، ويعقوب ، قرءا بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك .

( قل أطيعوا الله والرسول ) هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن ابن عباس ، أنه لما نزل ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته ، كطاعة الله ، ويأمر بأن نحبه ، كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم ، فنزل ( قل أطيعوا الله ) .

( فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضيا . ويحتمل أن يكون [ ص: 432 ] مضارعا حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به ، من اتباعه ، وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافرا . وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافرا ، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن العاصي لا يندرج في ذلك .

قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة ، وفنون البلاغة . الخطاب العام الذي سببه خاص ، في قوله ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين ) والتكرار ، في قوله : المؤمنون ، من دون المؤمنين ، وفي قوله : ( من الله ) ، ( ويحذركم الله نفسه ) ، ( وإلى الله ) وفي : ( يعلمه الله ) ، ( ويعلم ) وفي قوله : ( يعلمه الله ) ، ( والله على ) وفي قوله : ( ما عملت ) ، ( وما عملت ) وفي قوله : ( الله نفسه ) ، ( والله ) وفي قوله : ( ويحذركم الله ) ، ( والله رءوف ) وفي قوله : ( تحبون الله ) ، ( يحببكم الله ) ، ( والله غفور ) ، ( قل أطيعوا الله ) ، ( فإن الله ) .

والتجنيس المماثل في : تحبون ، ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاة ، وفي يغفر لكم ، وغفور .

والطباق في : تخفوا ، وتبدوه ، وفي : من خير ، ومن سوء ، وفي : محضرا ، وبعيدا .

والتعبير بالمحل عن الشيء ، في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ) الآية .

والإشارة في قوله : ( ومن يفعل ذلك ) ، الآية . أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله .

والاختصاص في قوله : ( ما في صدوركم ) ، وفي قوله : ( ما في السماوات وما في الأرض )

والتأنيس بعد الإيحاش ، في قوله : والله رءوف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية