صفحة جزء
( يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ) يكاد : مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة ، ووزنها فعل يفعل ، نحو خاف يخاف ، منقلبة عن واو ، وفيها لغتان : فعل كما ذكرناه ، وفعل ، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا : كدت ، وكدت ، وكدن ، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف ، مع ما إسناده لغير ما ذكر ، قول الشاعر :


وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي وكيد خراش عند ذلك ييتم



يريد : وكادت ، وكاد ، وليس من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارعا إلا : كاد وأوشك . وهذه الأفعال هي من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر ، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعا ، ولها باب معقود في النحو ، وهي نحو من ثلاثين فعلا ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه ( شرح جمل الزجاجي ) . وقال بعض المفسرين : يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي ، وقد أنشدوا في ذلك شعرا يلغز فيه بها ، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره ، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب ، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو .

الخطف : أخذ الشيء بسرعة . كل : للعموم ، وهو اسم جمع لازم للإضافة ، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين ، وقيل : هو تنوين الصرف ، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة ، فيجيء منها الحال ، ولا تعرف باللام عند الأكثرين ، وأجاز ذلك الأخفش والفارسي ، وربما انتصب حالا ، والأصل فيها أن تتبع توكيدا كأجمع ، وتستعمل مبتدأ ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولا ، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصا بالشعر خلافا لزاعمه . وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية ، وإذا ابتدئ بها مضافة لفظا إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة ، فالأفصح إفراد العائد ، أو معنى لا لفظا ، فالأصل ، وقد يحسن الإفراد ، وأحكام كل كثيرة . وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة ، وسردنا منها جملة لينتفع بها ، فإنها تكررت في القرآن كثيرا .

المشي : الحركة المعروفة . لو ، عبارة سيبويه ، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه - رحمه الله - في كل مكان جاءت فيه لو ، وانخرام تفسيرهم في نحو : لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا ، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية ، إذ الأخص مستلزم الأعم ، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك ، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية ، وليس بصحيح ، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية ، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية . وتكون لو أيضا شرطا في المستقبل بمعنى أن ، ولا يجوز الجزم [ ص: 89 ] بها خلافا لقوم ، قال الشاعر :


لا يلفك الراجوك إلا مظهرا     خلق الكرام ولو تكون عديما



وتشرب لو معنى التمني ، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى : ( لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم ) ، إن شاء الله - تعالى - ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافا لزاعم ذلك . شاء : بمعنى أراد ، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى ، وأكثر ما يحذف مع لو لدلالة الجواب عليه . قال الزمخشري : ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد ، يعني حذف مفعوليهما ، قال : لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب ، نحو قوله :


فلو شئت أن أبكي دما لبكيته



وقوله تعالى : ( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه ) ، و ( لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى ) ، انتهى كلامه . قال صاحب التبيان ، وذلك بعد أن أنشد قوله :


فلو شئت أن أبكي دما لبكيته     عليه ولكن ساحة الصبر أوسع



متى كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا ، كان الأحسن أن يذكر نحو : لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته ، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك ، أو كالمنكر ، فأنت تقصد إلى إثباته عنده ، فإن لم يكن منكرا فالحذف نحو : لو شئت قمت . وفي التنزيل : ( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) ، انتهى . وهو موافق لكلام الزمخشري . وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره ، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير ، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه ، فهما تركيبان فصيحان ، وإن كان أحدهما أكثر ، فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف ، إذ يكون المحذوف مصدرا دل عليه الجواب ، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد ، وهو الخبر في نحو : لولا زيد لأكرمتك ، للطول بالجواب ، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه ، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى . والثاني : أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله ، نحو قوله تعالى : ( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه ) ، وقول الشاعر :


فلو شئت أن أبكي دما لبكيته



وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف ، نحو قوله تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) ، ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) . الشيء : ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه ، قال سيبويه - رحمه الله - وإنما يخرج التأنيث من التذكير ، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى ؟ والشيء مذكر ، وهو عندنا مرادف للموجود ، وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف ، ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات ، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل . القدرة : القوة على الشيء والاستطاعة له ، والفعل قدر ، ومصادره كثيرة : قدر ، قدرة ، وبتثليث القاف ، ومقدرة ، وبتثليث الدال ، وقدر ، أو قدر ، أو قدر ، أو قدار ، أو قدار ، أو قدرانا ، ومقدرا ، ومقدرا . الجملة من قوله : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) لا موضع لها من الإعراب ، إذ هي مستأنفة جواب قائل قال : فكيف حالهم مع ذلك البرق ؟ فقيل : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) ، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة ، التقدير : كائد البرق يخطف أبصارهم ، والألف واللام في البرق للعهد ، إذ جرى ذكره نكرة في قوله : ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) ، فصار نظير : لقيت رجلا فضربت الرجل ، وقوله تعالى : ( أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) . وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن زيد : يخطف ، بسكون الخاء وكسر الطاء ، قال ابن مجاهد : وأظنه غلطا ، واستدل على ذلك بأن أحدا لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة . وقال الزمخشري : الفتح ، يعني في المضارع أفصح ، انتهى . والكسر في طاء الماضي لغة قريش ، وهي أفصح ، وبعض العرب يقول : خطف ، بفتح الطاء ، يخطف ، بالكسر . قال ابن [ ص: 90 ] عطية ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم . وقرأ علي وابن مسعود : يختطف . وقرأ أبي : يتخطف . وقرأ الحسن أيضا : يخطف ، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة . وقرأ الحسن أيضا ، والجحدري وابن أبي إسحاق : يخطف ، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة ، وأصله يختطف . وقرأ الحسن أيضا ، وأبو رجاء وعاصم الجحدري و قتادة : يخطف ، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة . وقرأ أيضا الحسن ، والأعمش : يخطف ، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء . وقرأ زيد بن علي : يخطف ، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف ، وهو تكثير مبالغة لا تعدية . وقرأ بعض أهل المدينة : يخطف ، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة ، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان ؛ لأنه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما . فهذا الحرف قرئ عشر قراءات : السبعة يخطف ، والشواذ : يخطف يختطف يتخطف يخطف ، وأصله يتخطف ، فحذف التاء مع الياء شذوذا ، كما حذفها مع التاء قياسا . يخطف يخطف يخطف يخطف ، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها ، فإما بحركة التاء ، وهي الفتح مبينة أو مختلسة ، أو بحركة التقاء الساكنين ، وهي الكسر . وكسر الياء إتباع لكسرة الخاء ، وهذه مسألة إدغام اختصم به ، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر ، وتبيين ذلك في علم التصريف . ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال : يكاد ذلك يصيبهم . ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال : المعنى يكاد ذلك يبهرهم .

وكل : منصوب على الظرف ، وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت : ما صحبتني أكرمتك ، فالمعنى مدة صحبتك لي أكرمك ، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي ، وما الظرفية يراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق ، فإنما تريد العموم . فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما ، فيكتفى فيه بمرة واحدة ، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب . والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما ، إنما ذلك فيها من العموم ، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار ، كما يدل عليه كلامهم ، وإنما جاءت كل توكيدا للعموم المستفاد من ما الظرفية ، فإذا قلت : كلما جئتني أكرمتك ، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيآتك إلي . وما أضاء : في موضع خفض بالإضافة ، إذ التقدير كل إضاءة ، وهو على حذف مضاف أيضا ، معناه : كل وقت إضاءة ، فقام المصدر مقام الظرف ، كما قالوا : جئتك خفوق النجم . والعامل في كلما قوله : مشوا فيه ، وأضاء عند المبرد هنا متعد ، التقدير : كلما أضاء لهم البرق الطريق . فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائدا على المفعول المحذوف ، ويحتمل أن يعود على البرق ، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه ، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازما ، أي : كلما لمع البرق مشوا في نوره ، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة : كلما ضاء ، ثلاثيا ، وقد تقدم أنها لغة . وفي مصحف أبي : مروا فيه ، وفي مصحف ابن مسعود : مضوا فيه . وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل : فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه ، قيل : كلما أضاء لهم إلى آخره .

وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك : وإذا أظلم مبنيا للمفعول ، وأصل أظلم أن لا يتعدى ، يقال : أظلم الليل . وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعديا بنفسه لمفعول ، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله . قال الزمخشري : أظلم على ما لم يسم فاعله ، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي :


هما أظلما حالي ثمت أجليا     ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب



وهو إن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه . ألا [ ص: 91 ] ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه ، انتهى كلامه . فظاهره كما قلنا أنه متعد وبناؤه لما لم يسم فاعله ، ولذلك استأنس بقول أبي تمام : هما أظلما حالي ، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري ، وهو أن يكون أظلم غير متعد بنفسه لمفعول ، ولكنه يتعدى بحرف جر . ألا ترى كيف عدي أظلم إلى المجرور بعلى ؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور ، فيكون في موضع رفع ، وكان الأصل : وإذا أظلم الليل عليهم ، ثم حذف ، فقام الجار والمجرور مقامه ، نحو : غضب زيد على عمرو ، ثم تحذف زيدا وتبني الفعل للمفعول فتقول : غضب على عمرو ، فليس يكون التقدير إذ ذاك : وإذا أظلم الله الليل ، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل . وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به ، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب :


من كان مرعى عزمه وهمومه     روض الأماني لم يزل مهزولا



وكيف يستشهد بكلام من هو مولد ، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره ؟ ومعنى قاموا : ثبتوا ووقفوا ، وصدرت الجملة الأولى بكلما ، والثانية بإذا . قال الزمخشري : لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، انتهى كلامه . ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى ؛ لأنه متى فهم التكرار من : ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) لزم منه أيضا التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا ؛ لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ، فمتى وجد هذا فقد هذا ، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذا تدل على التكرار ككلما ، وأنشد :


إذا وجدت أوار الحب في كبدي     أقبلت نحو سقاء القوم أبترد



قال : فهذا معناه معنى كلما . وفي تأويل هذه الآية أقوال . قال ابن عباس والسدي : كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه . وقال قتادة : إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم ، فيسرعون إلى متابعته . وقال مقاتل : البرق الإسلام ، ومشيهم فيه إهتداؤهم ، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم . وقيل : إضاءته لهم : تركهم بلا ابتلاء ، ومشيهم فيه : إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه ، وقيل : كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا ، أي ثبتوا على نفاقهم . وقيل : كلما توالت عليهم النعم قالوا : دين حق ، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم . وقيل : كلما خفي نفاقهم مشوا ، فإذا افتضحوا قاموا ، وقيل : كلما أضاء لهم الحق اتبعوه ، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه . وقيل : ينتفعون بإظهار الإيمان ، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا ، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين . قال الزمخشري : وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، انتهى كلامه . ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه ، التقدير : ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم . والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في : ( ذهب الله بنورهم ) ، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) . وقرأ ابن أبي عبلة : لأذهب بأسماعهم وأبصارهم ، فالباء زائدة ، التقدير : لأذهب أسماعهم ، كما قال بعضهم : مسحت برأسه ، يريد رأسه ، وخشنت بصدره ، يريد صدره ، وليس من مواضع قياس زيادة الباء ، وجمعه الأسماع مطابق لجمع الأبصار . ومعنى الجملة : أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك . وقيل : المعنى [ ص: 92 ] لإهلاكهم ؛ لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم . وقيل : وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى ما لهم ، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم . وقيل : لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام . وقيل : لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون ، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا . وقيل ، عن ابن عباس : لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته . وقيل : لعجل لهم العقوبة في الدنيا ، فذهب بسمعهم وأبصارهم ، فلم ينتفعوا بها في الدنيا ؛ لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم . وقيل : لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم . وقيل : لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد . وقيل : لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم . وقال الزمخشري : لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق . وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب ، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر ، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق ، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم . ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت ، وكما اخترنا في قوله ( ذهب الله بنورهم ) إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد ، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر ، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه ، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له ، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة . وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة ، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به ، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل ، وخص السمع والأبصار في قوله : ( لذهب بسمعهم وأبصارهم ) لتقدم ذكرهما في قوله : ( في آذانهم ) ، وفي قوله : ( يخطف أبصارهم ) . وقال بعضهم : تقدم ذكر الرعد والصواعق ، ومدركهما السمع ، والظلمات والبرق ، ومدركهما البصر ، ثم قال : لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم ، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالقدرة لأن بهما تمام الأفعال ، أعني بالقدرة والإرادة ، وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى . وعلى كل شيء : متعلق بقوله : قدير ، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم ، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات .

وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها ، ونحن نلخص ذلك هنا ، فنقول : افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين ، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم ، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب ، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل ، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطى أبصارهم الميئوس من إيمانهم ، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم ، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالا من المشركين ؛ لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين ، فقدم الله ذكر المؤمنين ، وثنى بذكر أهل الشقاء الكافرين ، وثلث بذكر المنافقين الملحدين ، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية ، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم ، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأمثال ، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال . فانظر إلى حسن هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية