صفحة جزء
( فنادته الملائكة ) قيل : النداء يستعمل في التبشير ، وفيما ينبغي أن يسرع به ، وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخبارا من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ؛ ولغير ذلك ، كما جاء . " ‌يا أهل النار خلود بلا موت " وجاء : ( ياهامان ابن لي صرحا ) وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم ( إن الله يبشرك ) لا أن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيدا كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين . وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته .

وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك . والظاهر أن مناديه جماعة من [ ص: 446 ] الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى - ملائكة إلى قوم لوط ، وإلى إبراهيم ، وفي غير ما قصه . وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ، ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم . وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : و جبريل رئيس الملائكة .

وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة ، وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث ، والملائكة : جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وأن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل : أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسن الحذف هنا الفصل بالمفعول .

( وهو قائم يصلي في المحراب ) ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن الله يبشرك . وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين . وقيل : القبلة . والظاهر أن المحراب ، هو المحراب الذي قبله في قوله : ( كلما دخل عليها زكريا المحراب ) ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة . وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم . وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته .

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، ويصلي : يحتمل أن يكون صفة : لـ " قائم " ، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير المستكن في : " قائم " ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا : لـ " هو " ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد . ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بـ " قائم " ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالا من الضمير الذي استكن في : " قائم " ، فيجوز . لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه ، وفي : يصلي ، وهو : " قائم " ; لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : " قائم " ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور .

وفي قوله : ( قائم يصلي في المحراب ) قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعا لمن قبلنا . ورقق ورش راء : " المحراب " ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كان : " المحراب " ، مجرورا ، ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر . ولم يقيد بالجر .

( إن الله يبشرك بيحيى ) قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة . فعند البصريين الكسر على إضمار القول ، أي : وقالت . وعند الكوفيين لا إضمار ; لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت " بنادته " ، لأن معناه قالت له . وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير : وحين حذفت ، فالموضع نصب بالفعل ، أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب .

وقرأ عبد الله : يا زكريا إن الله . فقوله : يا زكريا ، هو معمول النداء . فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : " إن " ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى . وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل . ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ .

[ ص: 447 ] وقد قال في سورة مريم : ( يازكريا إنا نبشرك ) فأسند ذلك إليه تعالى . وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا ، وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففا . وافقهما ابن كثير ، وأبو عمر ، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر : ( ألا فبم تبشرون ؟ ) و مريم ، وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين ، وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغى ثلاث ، ذكرها غير واحد من اللغويين ، وقال الشاعر :


بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها



وقال الآخر :


يا بشر حق لوجهك التبشير     هلا غضبت لنا وأنت أمير



بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ، ومن امرأتك ، فإن كان أعجميا فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربيا فللعلمية ، ووزن الفعل ، كيعمر . وقد ذكرنا هذا . وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة . قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان . وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة ، وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : " من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة " وقال مقاتل : سمي يحيى ; لأنه أحياه بين شيخ ، وعجوز ، وقال الزجاج : حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، وقال ابن عباس : إن الله أحيا به عقر أمه ، وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلا ، كالمفازة ، والسليم ، وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى .

( مصدقا بكلمة من الله ) الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ؟ قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم . قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أول من صدق بعيسى ، وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون ، وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق . وقال أبو عبيدة ، وغيره ( بكلمة من الله ) أي : بكتاب من الله ؛ التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة ، روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي : قصيدته . وفي الحديث : " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل     وكل نعيم لا محالة زائل "



وقيل معنى : ( بكلمة من الله ) هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف ، وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف ، وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين . ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالا للكسرة في العين .

وانتصب : مصدقا ، على الحال ، قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة ، بحسب حال هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام .

( وسيدا ) قال ابن عباس : السيد : الكريم ، وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر :


سيد لا تحل حبوته     بوادر الجاهلين إن جهلوا



وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب ، وقال الضحاك : الحسن الخلق ، وقال سالم : التقي ، وقال ابن زيد : الشريف ، وقال ابن المسيب : الفقيه العالم ، وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله ، وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه ، وقال أبو بكر الوراق : المتوكل ، وقال الترمذي : العظيم الهمة ، وقال الثوري : السيد من لا يحسد ؛ من قولهم : الحسود لا يسود ، وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه .

[ ص: 448 ] وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي تجب طاعته . ولهذا قيل للزوج : سيد ، وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي .

وجاء في الحديث : " السيد من أعطي مالا ورزق سماحا ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس " . وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه ، وقال في الحديث لبني سلمة ، وقد سألهم من سيدكم فقالوا : الجد بن قيس على بخله ، فقال - عليه السلام : " وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح " . وسمي أيضا سعد بن معاذ سيدا ، في قوله : " قوموا إلى سيدكم " . أي : رئيسكم ، والمطاع فيكم . وسمي الحسن بن علي : سيدا . في قوله : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " . وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي : يفوقها في الشرف . وكان يحيى قائما لقومه ، قائما للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ انتهى كلامه .

وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه ، دون أن يوقع في باطل ، وتفصيله : بذل الندى ، وهو الكرم ، وكف الأذى ، وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات ، وجبر الكسير ، والإنقاذ من الهلكات . وقد يوجد من الثقاة العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيدا ، وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة . وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما ، انتهى كلامه .

وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيرا في وصف يحيى - عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون . وفي قوله : وسيدا ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح . ولا يقال ذلك للظالم ، والمنافق ، والكافر .

وورد النهي : " لا تقولوا للمنافق سيدا " ، وما جاء من قوله ( أطعنا سادتنا ) فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم . قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنت سيدنا ، وذو الطول علينا ، فقال : " السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم " ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيدا ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح .

( وحصورا ) هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر :


وحصورا لا يريد نكاحا     لا ولا يبتغي النساء الصباحا



وقد روي أنه تزوج مع ذلك ; ليكون أغض لبصره ، وقيل : الحاصر نفسه عن الشهوات ، وقيل : عن معاصي الله ، وقيل : الحصور الهيوب ، وقال ابن مسعود أيضا ، وابن عباس أيضا ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له ، يتأتى به النكاح ولا ينزل . وإيراد الحصور وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى - عليه السلام - أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء ، وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك .

قال مجاهد : كان طعام يحيى العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرى في وجهه . قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء ، وغيرهن من شهوات الدنيا . وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل :


وشارب مربح بالكأس نادمني     لا بالحصور ولا فيها بسآر



فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو . وقد روي أنه : مر ، وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : [ ص: 449 ] ما للعب خلقت . والحصور والحصر كاتم السر ، قال جرير :


ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا     حصرا بسرك يا أميم ضنينا



وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير . وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها . وقد استدل بقوله ( وحصورا ) من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور ، خلافا لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس .

( ونبيا ) هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولا الوصف الذي تنبني عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة ، وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة ، وخصوصا فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا ، وهي : رتبة النبوة . وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف مريم - عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابه إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيدا ، فاشتركا في هذا الوصف . وكانت مريم عذراء بتولا لم يمسسها بشر ، وكان يحيى لا يقرب النساء . وكانت مريم أتاها الملك رسولا من عند الله وحاورتاها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبيا ، وحقيقة النبوة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف .

( من الصالحين ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : ( ذرية بعضها من بعض ) ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحا من جملة الصالحين . كما قال تعالى في وصف إبراهيم ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح ; لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك ، وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم انتهى .

وقد قال سليمان بعد حصول النبوة له : ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيبا من الصلاح كان أعلى قدرا . وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلا بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرهم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيدا . وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة .

( قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) كان قد تقدم سؤاله ربه : ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) فلا شك في إمكانية ذلك وجوازه : وإذا كان ذلك ممكنا ، وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ .

وأجيب بوجوه : أحدها : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقرا ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعا وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانيا وتسعين سنة ، وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة ، وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة .

أم أعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة ، وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال . قال معناه : الحسن ، والأصم . الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من [ ص: 450 ] صلبه نفسه أم من بنيه ؟ .

الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال ، والتبشير أربعون سنة ، ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة . الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات ، وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبدا له عادة . الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزا عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع ، وامرأته على القبول على حال الكبر ؟ السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر ، أم من غيرها .

السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي ، قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : ( أنى يكون لي غلام ) ليبين الله له أنه من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي . قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع .

وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما يتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله . وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة . كما قالت مريم انتهى . وعلى ما قاله : لو كان استبعادا لما سأله بقوله : ( هب لي من لدنك ذرية طيبة ) لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكنا لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع .

و : يكون ، يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام ، أي : أنى يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الاسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، إذ تقدم أداة الاستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة .

وقيل : ( وامرأتي عاقر ) حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ، فلم يكن وصفا لازما ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقرا أمر لازم لها لم يكن وصفا طارئا عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر في : وحقيقة البلوغ في الأجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه .

وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنها طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : ( وقد بلغت من الكبر عتيا ) وكما قال :


مثل القنافذ هداجون قد بلغت     نجران أو بلغت سوءاتهم هجر



وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر انتهى . وهنا قدم حال نفسه ، وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعى الألفاظ في الحكاية ، إنما تراعى المعاني المدرجة في الألفاظ . وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ، ( واشتعل الرأس شيبا ) . وقال : ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ) ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتيا رؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعرا بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام .

( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكون الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة ، أم من التي لا تجري على العادة ؟ .

[ ص: 451 ] وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلا مثل ذلك الفعل ، أو على أنها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من " يفعل " ، وذلك على مذهب سيبويه ، وقد تقدم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون " كذلك الله " مبتدأ وخبرا ، وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون ( يفعل ما يشاء ) شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : ( ويفعل ما يشاء ) بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات انتهى .

وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله انتهى . وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ ، والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول : الكلام جملة واحدة . قال ابن عطية ، وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا ، وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ، ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام . والكلام تام على هذا التأويل . في قوله : كذلك ، وقوله : الله يفعل ما يشاء . جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب انتهى كلامه . فيكون : كذلك ، متعلقا بمحذوف ، وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد ، وأنت بحالتك . والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية