صفحة جزء
( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) .

الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس ، وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس . يقال : أحسست الشيء ، وحسست به . وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سينيه في أحسست فيقول : أحست . قال :


سوى أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس



وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : " أحست " و " أحسن " يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ، ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف .

الحواري : صفوة الرجل وخاصته . ومنه قيل : الحضريات الحواريات ; لخلوص ألوانهن ونظافتهن قال أبو جلذة اليشكري :


فقل للحواريات تبكين غيرنا     ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح



ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيلة ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من الحور ، وهو البياض . حورت الثوب بيضته . المكر : الخداع والخبث ، وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم ، واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكان الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق . والمكر : ضرب من النبات .

تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعو من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه ، ولبهيمته ونحو ذلك .

الابتهال : قوله بهلة الله على الكاذب ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، ويقال بهله الله : لعنه وأبعده ، من قولك أبهله ، إذا أهمله ، وناقة باهلة لا ضرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعانا . وقال لبيد :


من قروم سادة من قومهم     نظر الدهر إليهم فابتهل



[ ص: 471 ] ( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) تقدم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله ( صراط مستقيم ) أو بعد قوله : ( ورسولا إلى بني إسرائيل ) وذلك عند تفسير ( ورسولا إلى بني إسرائيل ) .

قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب . وقال الفراء : أحس وجد . وقال أبو عبيدة : عرف . وقيل : علم . وقيل : خاف . والكفر : هنا جحود نبوته ، وإنكار معجزاته ، ومنهم : متعلق بـ " أحس " ، قيل : ويجوز أن يكون حالا من الكفر .

( قال من أنصاري إلى الله ) لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد ، وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق .

قال المغربي : إنما قال عيسى : ( من أنصاري إلى الله ) بعد رفعه إلى السماء ، وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الاثنى عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جدا ، لم يذكره غيره بل المنقول . والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء . قال السدي : من أعواني مع الله . وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى الله . وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى الله : لله ، كقوله : ( يهدي إلى الحق ) أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر الله . وقيل : من ينقطع معي إلى الله ، قاله ابن بحر ، وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر الله . وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات الله ؟ وقال ابن عطية : من أنصاري إلى الله . عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم انتهى . وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري ؟ مضمنا معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ؟ أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء ، أي : من أنصاري ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه ؟ انتهى .

( قال الحواريون ) أي أصفياء عيسى . قاله ابن عباس . أو : خواصه ، قاله الفراء . أو البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . أو القصارون ، سموا بذلك ; لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل . أو : المجاهدون ، أو : الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه - السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس لله ؟ فأجابوا . قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلا يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا ؟ نأكل من أين شئنا . فقال عيسى : من يعمل بيده ؟ ويأكل من كسبه ؟ فصاروا قصارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك ، وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون ، وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها ، وقال تاج القراء : الحواري : الصديق .

قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألوانا شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه ، وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء . وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها ، وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ، ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياء ، وحملت الضمة تذكرا لحال الهمزة المراد فيها .

( نحن أنصار الله ) أي : أنصار دينه وشرعه والداعي إليه .

( آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) لما ذكروا أنهم أنصار الله ، ذكروا مستند هذه النسبة ، وهو الإيمان بالله ، واستدعوا من عيسى أن يشهد بإسلامهم ; وذلك على سبيل التثبيت لإيمانهم ; لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم . ودل ذلك على أن عيسى - عليه السلام - كان على دين الإسلام ، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ) [ ص: 472 ] الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطابا لله تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين ل عيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له .

التالي السابق


الخدمات العلمية