صفحة جزء
( ربنا آمنا بما أنزلت ) أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل ، أو بالإنجيل . ( واتبعنا الرسول ) هو عيسى على قول الجمهور .

( فاكتبنا مع الشاهدين ) هم : محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يشهد لهم بالصدق . روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . أو الأنبياء ; لأن كل نبي شاهد على أمته . أو الصادقون ، قاله مقاتل . أو الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج . أو الشاهدون لنصرة رسلك ، أو الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال .

( ومكروا ومكر الله ) الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم ، هو احتيالهم في قتل عيسى ، بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره ، وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله ، وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله .

( ومكر الله ) مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكرا ; لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقوله ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) وكثيرا ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه . وقيل : مكر الله بهم هو ردهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل . وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم ، وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل ، وصار نصرانيا ، ولم يظهر ذلك . ثم ولي ملك آخر بعد ، وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجرا على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة و النضير إلى الحجاز .

وقال المفضل : ودبروا ، ودبر الله ، والمكر : لطف التدبير ، وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام . وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه ، وقهرهم بالذل ، ومكرهم : لزومهم إبطال دينه . والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع . وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله - سبحانه - لنفسه المكر ، وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني :


ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا



ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل .

( والله خير الماكرين ) معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل ، وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : ( والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) . وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) وقال حسان :


فشركما لخيركما الفداء



وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في أحس : إذ لا يحس إلا ما كان متجسدا ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ، ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلا إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون أحس لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته . قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر .

والسؤال والجواب في : قال ( من أنصاري إلى الله قال الحواريون ) [ ص: 473 ] والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف في مواضع .

( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ) العامل في : إذ ، ومكر الله ، قاله الطبري ، أو اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري . وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية . ومتوفيك : هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي : ورافعك ، وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب . أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس . وقال وهب : مات ثلاث ساعات ، ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات . وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك ، وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير . وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك ، لا قتلا بأيديهم . وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، و مطر الوراق ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته .

وقيل : أجعلك كالمتوفى ; لأنه بالرفع يشبهه . وقيل : آخذك وافيا بروحك وبدنك . وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ ، وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك . قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : " أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة " وقيل : أربعين سنة انتهى .

( ورافعك إلي ) الرفع نقل من سفل إلى علو ، وإلي : إضافة تشريف . والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي . وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ، ولا في الظاهر إلا أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهرا . وقيل : إلى محل ثوابك . قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس . قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى ، فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر . وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت ، وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه . وروي أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت .

( ومطهرك من الذين كفروا ) جعل الذين كفروا دنسا ، ونجسا فطهره منهم ; لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس ، وهو الكفر ، كما قال : ( إنما المشركون نجس ) وكما جاء في الحديث : " المؤمن لا ينجس " فجعل علة تطهيره الإيمان .

وقيل : مطهرك من أذى الكفرة . وقيل : من الكفر والفواحش . وقيل : مما قالوه فيك ، وفي أمك . وقيل : ومطهرك ؛ أي : مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان . وقال الراغب : متوفيك : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا ، وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قد رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم . وقيل : تخليصه من قتلهم ; لأن ذلك نجس طهره الله منه . قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلا أن لفظ التطهير [ ص: 474 ] فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة . ولهذا ذكره الله في المؤمنين ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين .

( وجاعل الذين اتبعوك ) الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة . وقيل : هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من تلوين الخطاب انتهى هذا القول ، ولا يظهر . ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون ; لأنهم متبعوه في أصل الإسلام ، وإن اختلفت الشرائع .

( فوق الذين كفروا ) يعلونهم بالحجة ، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه .

فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن . أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد . فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى . فالآية ، على قوله مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكما دنيويا لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود . وقال الجمهور بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين .

والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكرا ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله .

وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات . وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه ، هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاما في المسلمين ، وعاما في الكافرين ، أو هم متبعوه في الانتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، ويكون الكافرون خاصا باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به . وأما الفوقية فإما حقيقة ، وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازا أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينيا ، وإما : بالعزة والغلبة ، فيكون ذلك دنيويا ، وإما بهما .

( إلى يوم القيامة ) الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لـ " جاعل " ، إذ معنى " جاعل " هنا : مصير ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلى ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مطهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، إما برافعك أو مطهرك ، فظاهر . وإما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال . وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولا : بإخباره تعالى ل عيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ، ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانيا برفعه إلى سمائه ، وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه ، ثم ثالثا برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا ، فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولا وآخرا . ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدئ بهما . ولما كان التطهير عاما يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهي أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقر بذلك عينه ، ويسر قلبه .

ولما كان هذا الوصف من اعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيه ، وأوتي تابعوه من الخير .

( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى [ ص: 475 ] ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ; لأنه سبق ذكر مكذبيه وهم اليهود ، وذكر من آمن به ، وهم الحواريون . وأعقب ذلك قوله : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ) فذكر متبعيه والكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إلي مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجرا لمن يزدجر . ثم ذكر لفظة : إلي ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهما ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم .

وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب ل عيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى انتهى كلامه . والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته .

التالي السابق


الخدمات العلمية