صفحة جزء
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير . قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء . وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة . وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟

ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتابا ، ولذلك دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى ; لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بـ " يا أهل الكتاب ، هزا لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيها على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم . وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، وكلمة : كسدرة ، وتقدم هذا عند قوله : ( مصدقا بكلمة ) والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية : ( لا إله إلا الله ) ، وهذا تفسير المعنى . وعبر بالكلمة عن الكلمات ; لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد [ ص: 483 ] موضع الجمع ، كما قال :


بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب



وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختل جزء منها اختلت الكلمة ; لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها .

وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : " سواء " ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : " كلمة " ، وإن كان نكرة ذا الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من استوى الشيء ، وقال زهير :


أروني خطة لا ضيم فيها     يسوي بيننا فيها السواء



والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال ابن عباس : أي : كلمة مستوية ، أي : مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير ، وبين تفسير لفظة العدل ، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم ، أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى ( فانبذ إليهم على سواء ) على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرا مقاسما لك ، في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء .

( أن لا نعبد إلا الله ) موضع : " أن " ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلا الله . وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء ، والخبر قوله : بيننا وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم ; لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضا ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلا على مذهب الأخفش والكوفيين ، حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، و البصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلا أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف .

والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ، ولا نشرك به شيئا ، أي : لا نجعل له شريكا . و " شيئا " يحتمل أن يكون مفعولا به ، ويحتمل أن يكون مصدرا أي شيئا من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ، ومصدر ، وزمان ، ومكان وهيئة .

[ ص: 484 ] ( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) أي لا نتخذهم أربابا ، فنعتقد فيهم الإلهية ، ونعبدهم على ذلك : كعزير و عيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة .

وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء ، فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ، ونجعل طاعتهم شرعا . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال : " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " ؟ قال : نعم . قال : " هو ذاك " . وفي قوله : بعضنا بعضا ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلها ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعادا : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضا ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ; لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة ، واتخذوا أحبارهم أربابا في الطاعة لهم في تحليل وتحريم ، وفي السجود لهم .

قال الطبري : في قوله : ( أربابا من دون الله ) أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل ، لما لم يحرمه الله ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الروافض انتهى . وفيه بعض اختصار .

( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء ، فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحس . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون ؟ انتهى .

وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره انتهى . وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية