صفحة جزء
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) أجمع المفسرون على أنها نزلت في معاذ ، وحذيفة ، وعمار ، دعاهم يهود بني النضير ، و قريظة ، و قينقاع ، إلى دينهم . وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود ، وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت . وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : " ود " بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو وأن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والاسم منه : ود ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم . وقال الراغب : إذا كان ود ، بمعنى أحب لا يجوز إدخال " لو " فيه أبدا . وقال علي بن عيسى : إذا كان ود بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي ; لأن الإرادة كاستدعاء الفعل . وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل . وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرني أن قمت ؟ .

[ ص: 489 ] ( من أهل الكتاب ) في موضع الصفة لـ " طائفة " ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم . وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو هنا قالوا بمعنى : أن ، فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها . ومفعول : ود ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كل من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودوا إضلالكم لو يضلونكم لسروا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعا في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) فيطالع هناك . ومعنى : يضلونكم ، يردونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس . وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي . قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير :


كنت القذى في موج أخضر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا



وبقول النابغة :


فآب مضلوه بعين جلية     وغودر بالجولان حزم ونائل



وهو تفسير غير مخلص ، ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ; لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأما أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم انتهى .

وقال غير ابن عطية : أضل الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكا فيه . وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي .

( وما يضلون إلا أنفسهم ) إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتغيير صفته صاروا بذلك كفارا ، وخرجوا عن ملة موسى و عيسى . وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج ، وإنزال الكتب ، وإرسال الرسل . وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام . وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلا عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم انتهى .

( وما يشعرون ) إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم . ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلا كان ضالا ، أو ( وما يشعرون ) أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي . أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي . وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية