صفحة جزء
( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) أي : ثم جاء في زمانكم . ومعنى التصديق كونه موافقا في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه ، وفي قول : " رسول " ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الانقياد لأمر الله ، وفي قوله : ( مصدق لما معكم ) دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولا ، والنصرة ثانيا ، وهو ترتيب ظاهر .

( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) ظاهره أن الضمير في : قال ، عائد على الله تعالى ، وفي : أأقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد النبيين ، وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به ، والنصرة له .

قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبيين ، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم ؟ ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقبول .

ويكون إصري ، على الظاهر مضافا إلى الله - تعالى - ، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافا إلى النبي . والإصر : العهد ; لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد . وقرئ بضم الهمزة ، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : أصر ، كما قالوا : ناقة أسفار عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدة للأسفار . ويحتمل أن يكون جمعا لآصار ، كإزار وأزر ، ومعنى الأخذ هنا القبول .

( قالوا أقررنا ) معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه . وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها .

( قال فاشهدوا ) الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، وأخذ الإصر ، قاله مقاتل . وقيل : فاشهدوا هو خطاب للملائكة ، قاله ابن المسيب . وقيل : معنى فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام ; لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ، بمعنى أدوا ، لا بمعنى تحملوا . وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس . وقيل : فاشهدوا ، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم ، أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم ، وروي هذا عن علي بن أبي طالب .

[ ص: 514 ] وعلى القول بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي قال كل نبي ، يكون المعنى على كل نبي لأمته ، فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض . وقوله : فاشهدوا ، معطوف على محذوف ، التقدير ، قال : أأقررتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف . ونظير ذلك قوله : ألقيت زيدا ؟ قال : لقيته ، قال : فأحسن إليه . التقدير : لقيت زيدا فأحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول ; لأجل الفاء ، ألا ترى قال أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل الفاء .

( وأنا معكم من الشاهدين ) يحتمل الاستئناف على سبيل التوكيد ، ويحتمل أن يكون جملة حالية .

التالي السابق


الخدمات العلمية