صفحة جزء
( قل صدق الله ) أمر تعالى نبيه أن يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه من الكذب . ونبه بذلك على أن ما أخبر به من قوله : ( كل الطعام ) وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة [ ص: 5 ] إبراهيم . والأحسن أن يكون قوله : " قل صدق الله " أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة . وقيل : في أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلما . وقيل في قوله : " كل الطعام " الآية ، قاله ابن السائب . وقيل : في أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا . قاله مقاتل ، وأبو سليمان الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم ، فقال :

( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون معه ، فيخلصون من ملة اليهودية . وعرض بقوله : وما كان من المشركين : إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيرا وإعرابا ، فأغنى عن إعادته . وقرأ أبان بن ثعلب " قل صدق " : بإدغام اللام في الصاد ، و " قل سيروا " بإدغام اللام في السين . وأدغم حمزة والكسائي وهشام " بل سولت " . قال ابن جني : علة ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما ، انتهى . وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغام يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما ، جائز ، وليس ككثرته مع الراء ؛ لأن هذه الحروف تراخين عنها ، وهي من الثنايا . قال : وجواز الإدغام لأن آخر مخرج اللام قريب من مخرجها . انتهى كلامه ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) روي عن مجاهد أنه تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ؛ لأنها مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم - وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه - أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه . وأيضا فإن اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال ؛ لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جميع الأنبياء ، فأكذبهم الله في ذلك بقوله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة " كما أكذبهم في دعواهم قبل إنما حرم عليهم ما كان محرما على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضا فإن كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حج الكعبة ، وهم لا يحجونها ، فأكذبهم الله في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على لفظ " أول " في قوله : " ولا تكونوا أول كافر به " ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أول بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السماوات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت ، فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السماوات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره . وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج ، إذ كان قبله بيوت ، وروي عن علي أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟ فقال علي : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم [ ص: 6 ] فبنته قريش . وقال أبو ذر : قلت يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " قلت : كم كان بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة ، إلا إن حمل الوضع على التجديد ، فيمكن الجمع بينهما . وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إن بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود - عليهما السلام - بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن بين الوضعين أربعين سنة " وأين زمان إبراهيم من زمان سليمان ! ومعنى وضع للناس : أي متعبدا يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور " وضع " مبنيا للمفعول . وقرأ عكرمة وابن السميقع " وضع " مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يعود على الله ، واحتمل أن يعود على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفق لحديث أبي ذر . وللناس : متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة : خبر إن . والمعنى : للبيت الذي ببكة . وأكدت النسبة بتأكيدين : إن واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو " أول بيت " لتخصصها بالإضافة وبالصفة التي هي وضع ، إما لها وإما لما أضيفت إليه ، إذ تخصيصه تخصيص لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ؛ لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول " إن " . ومن أمثلة سيبويه : أن قريبا منك زيد . تخصص " قريب " بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص ، وهو جائز في الاختيار قال :


وإن حراما أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم



والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعف أن يكون بكة هي المسجد ؛ لأنه يلزم أن يكون الشيء ظرفا لنفسه ، وهو لا يصح .

( مباركا وهدى للعالمين ) أما بركته فلما يحصل فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : " يجبى إليه ثمرات كل شيء " . وقيل : بركته دوام العبادة فيه ولزومها ؛ لأن البركة لها معنيان : أحدهما النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والبرك : الصدر ؛ لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك الله ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة " . وقال الفراء : سمي مباركا لأنه مغفرة للذنوب . وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أن من دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى ؛ فلأنه لما كان مقوما مصلحا كان فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدى ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . وقال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعا العالمون إليه ، وانتصاب مباركا على الحال . وجوزوا أن يكون حالا من الضمير الذي استكن في " وضع " ، والعامل فيها " وضع " أي أن أول بيت مباركا ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ؛ لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو الخبر ؛ لأنه معمول لأن ، خبر لها ، فإن أضمرت " وضع " بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركا . وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولا ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولا بقيد هذه الحال .

[ ص: 7 ] وجوزوا أيضا أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركا ، والمعطوف على الحال حال . وجوز بعضهم أن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .

التالي السابق


الخدمات العلمية