صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) لما أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف [ ص: 15 ] الإيمان ؛ تنبيها على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ " قل " ليكون ذلك خطابا منه تعالى لهم وتأنيسا لهم . وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ؛ لأنه لم تقع طاعتهم لهم . والإشارة بـ " ياأيها الذين آمنوا " إلى الأوس والخزرج ، بسبب ثائرة شاس بن قيس . وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل ، أي أن يصدر منكم طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول . والرد هنا التصيير ، أي يصيرونكم . والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ؛ لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج . ولو وقعت لكانت معصية لا كفرا ، إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له . وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهيا بعد منهي ، واستدراجهم شيئا فشيئا إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقة . وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان لـ " يرد " ؛ لأنها هنا بمعنى صير ، كقوله :


فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا



وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر .

( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين وهما : تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونة الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق . ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرق إليهم كفر مع ذلك . وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر ، فوبخوا على وقوعه ؛ لأنهم مؤمنون ؛ ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا . فليس نظير قوله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) والرسول هنا : محمد - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف . والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم وهم يشاهدونه . وقيل : لجميع الأمة ؛ لأن آثاره وسنته فيهم ، وإن لم يشاهدوه . قال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب الله ، ونبي الله . فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . وقيل : الخطاب للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور . وقرأ الجمهور " تتلى " بالتاء . وقرأ الحسن والأعمش : " يتلى " بالياء ؛ لأجل الفصل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن . قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه - صلى الله عليه وسلم - وهو في أمته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره . وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرق إليكم الكفر ، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية