صفحة جزء
( واعتصموا بحبل الله جميعا ) أي استمسكوا وتحصنوا . وحبل الله : العهد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض " . وروي عنه أنه قال : " القرآن حبل الله المتين ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تخلق على كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم " وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد [ ص: 18 ] والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب " جميعا " على الحال من الضمير في ( واعتصموا ) .

( ولا تفرقوا ) نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى . وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاة القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون : غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهي عنه هو في أصول الدين والإسلام .

( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) الخطاب لمشركي العرب ، قاله الحسن وقتادة يعني من آمن منهم ، إذ كان القوي يستبيح الضعيف . وقيل : للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ، ونهاهم عن التفرق ، وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه ، إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ، ذكرهم بأن ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك ، إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحوا من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام . وكان - أعني الأوس والخزرج - جداهم أخوان لأب وأم . وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولا بذكر النعمة الدنيوية ؛ لأنها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله : ( ولا تفرقوا ) وصار نظير : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت ) ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم . وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح ، بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال ، وعليه قوله :


أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا



قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال . فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع :


أصبحت لا أحمل السلاح ولا     أملك رأس البعير إن نفرا



[ ص: 19 ] وهذا الذي ذكره من أن أصبح للاستمرار ، وعلله بما ذكره - لا أعلم أحدا من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز الحوفي في " إذ " أن ينتصب بـ " اذكروا " ، وجوز غيره أن ينتصب بـ " نعمة " ، أي إنعام الله ، وبالعامل في " عليكم " . إذ جوزوا أن يكون حالا من " نعمة " ، وجوزوا أيضا تعلق عليكم بـ " نعمة " ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر " بنعمته " ، والباء ظرفية ، و " إخوانا " حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجار والمجرور . وأن يكون " إخوانا " خبر أصبح ، والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من " إخوانا " ؛ لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون " أصبحتم " تامة ، و " بنعمته " متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل " أصبحتم " أو من " إخوانا " ، و " إخوانا " حال . والذي يظهر أن أصبح ناقصة و " إخوانا " خبر ، و " بنعمته " متعلق بـ " أصبحتم " ، والباء للسبب لا ظرفية .

وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخوانا ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم . وفي كتاب الله تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) والصحيح أنهما يقالان من النسب وفي الدين . وجمع أخ على إخوة لا يراه سيبويه ، بل إخوة عنده اسم جمع ؛ لأن " فعلالا " يجمع على " فعلة " . وابن السراج يرى " فعلة " إذا فهم منه الجمع اسم جمع ؛ لأن " فعلة " لم يطرد جمعا لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة . وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنث " من " حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث . كما قال جرير :


أرى مر السنين أخذن مني     كما أخذ السرار من الهلال



قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ؛ لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد معادا للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة . انتهى . وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه . وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثا عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد . وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفرا وهندا مخصصا للمحدث عنه . أما ذكر النار فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضا أحد جزأي الإسناد ، لا محدثا عنها . وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها . وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ؛ لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا ، فأنقذهم الله بالإسلام . وقال السدي : بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : والله ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار ، وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أن آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها . وقال الزمخشري : " لعلكم تهتدون " إرادة أن تزدادوا هدى . وقال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجاء الاهتداء . فالزمخشري جعل الترجي مجازا عن إرادة الله زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر [ ص: 20 ] لا إلى الله تعالى ؛ إذ يستحيل الترجي من الله تعالى ، وفي كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيث جعل الترجي بمعنى إرادة الله ، وأما في قول ابن عطية فحيث أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر .

التالي السابق


الخدمات العلمية