صفحة جزء
( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسود . وابتدئ بالذين اسودت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسود وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدم الكلام على " أما " في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جوابا ؛ ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في [ ص: 23 ] مواضع كثيرة كقوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) أي يقولون : سلام عليكم . ولما حذف الخبر حذفت الفاء ، وإن كان حذفها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله :


فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيرا في عراض المواكب



يريد : فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بـ " نهاية التأميل في أسرار التنزيل " : قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف : يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : ( وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ) تقديره : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف " فيقال " ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جوابا له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفا يقتضي جوابا له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ، ثم يجعلون لهما جوابا واحدا ، كما في قوله تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جواب للشرطين ، وليس " أفلم " جواب " أما " ، بل الفاء عاطفة على مقدر ، والتقدير : [ ص: 24 ] أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ؛ لأنه ما من نحوي إلا خرج الآية على إضمار ، فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأما ما اعترض به من قوله : ( وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي ) وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف " فيقال " ولم تحذف الفاء - فدل على بطلان هذا التقدير ، فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في " أفلم " ليست فاء " فيقال " التي هي جواب " أما " حتى يقال : حذف " فيقال " وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب " أما " ، و " يقال " بعدها محذوف . وفاء " أفلم " تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر :


يموت أناس أو يشيب فتاهم     ويحدث ناس والصغير فيكبر



يريد : يكبر ، وقول الآخر :


لما اتقى بيد عظيم جرمها     فتركت ضاحي جلدها يتذبذب

يريد : تركت . وقال زهير :


أراني إذا ما بت بت على هوى     فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا

يريد : ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك فوجد ، يريدون أخوك وجد . والوجه الثاني - أو الخاطئ : متعمده . - و " مع الخواطئ سهم صائب " : يضرب لمن يكثر الخطأ ، ويصيب أحيانا . - وخطأت القدر بزبدها ، كمحذوف على أنه حال ؛ إذ لو تأخر لكان صفة لأمة . وأن تكو : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم ما يسوؤهم : فألم تكن آياتي ، ثم اعتني بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : ( أفلم يسيروا في الأرض ) وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد ، فغسل وجهه ويديه . . . إلى آخر أفعال الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في ( أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ) مفسرة للقول الذي يسوؤهم . وقول هذا الرجل : فلما بطل هذا يعني - أن يكون الجواب فذوقوا - أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله : فيقال لهم ؛ لوجود هذا الفاء في " أفلم تكن " ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب " أما " هو " فيقال " في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلا يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيرا إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك . وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بد من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم ; لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرجل : فوقع ذلك جوابا له ولقوله : أكفرتم ، يعني أن " فذوقوا العذاب " جواب لـ " أما " ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل [ ص: 25 ] يجعل لكل جواب إن لا يكن ظاهرا فمقدر ، ولا يجعلون لهما جوابا واحدا ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : ( فإما يأتينكم ) الآية . وزعمه أن قوله تعالى : ( فلا خوف عليهم ) جواب للشرطين ، فقول روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : ( فإما يأتينكم ) الآية . والهمزة في ( أكفرتم ) للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإن كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذر ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم [ ص: 26 ] الإيمان حقيقة ، وفي قوله : ( أكفرتم ) قالوا : تلوين الخطاب ، وهو أحد أنواع الالتفات ؛ لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة . " بما كنتم " الباء سببية وما مصدرية .

( وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) انظر تفاوت ما بين التقسيمين ، هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة ، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود ، لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر ؛ إشعارا بأن جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ، ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : ( فذوقوا العذاب ) ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف . وأصل افعل هذا افعلل ، يدل على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، وأعوز . وأن لا يكون من مضعف كأحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأن لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقض الحائط ، وابهار الليل ، واشعار الرجل بفرق شعره ، وشذ ارعوى ؛ لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعا لرعوته بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : ( مدهامتان ) ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : تزور عن كهفهم : واحمر خجلا . وجواب " أما " ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة . " وهم فيها خالدون " جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده . دلت على أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : " هم فيها خالدون " بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت ) موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون . انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب " أما " ففي الجنة هم فيها خالدون ، و " هم فيها خالدون " ابتداء وخبر . وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية