صفحة جزء
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) قال عكرمة ومقاتل : [ ص: 28 ] نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل . وقيل : نزلت في المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ) وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواه ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيض وجهه ويسود ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول ، فقال تعالى : " كنتم خير أمة " تحريضا بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم : أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكون الإشارة بقوله : " أمة " إلى أمة معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها .

وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم ( شهداء على الناس ) وقوله : نحن الآخرون السابقون . الحديث . وقوله : نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها .

وظاهر كان هنا أنها الناقصة ، و " خير أمة " هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائما ، بل المراد دوام النسبة كقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) وكون كان تدل على الدوام ومرادفه ، لم يزل قولا مرجوحا ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع . وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أي صرتم خير أمة . وقيل : كان هنا تامة ، ( وخير أمة ) حال . وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ؛ لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها . وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ . ومنه قوله تعالى : ( وكان الله غفورا ) .

ومنه قوله : " كنتم خير أمة " كأنه قيل : وجدتم خير أمة . انتهى كلامه . فقوله : إنها لا تدل على عدم سابق ، هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق . فإذا قلت : كان زيد عالما ، بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارئ ، قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال ، يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع . وفرق بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال : وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) ؛ لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن " خير أمة " حال . وقوله : ( وكان الله غفورا ) لاشك أنها هنا الناقصة ، فتعارضا . وقيل : المعنى : كنتم في علم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : فيما أخبر به الأمم قديما عنكم . وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله : ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل ، فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على [ ص: 29 ] جمع . والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم خير أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ ، وهي سبقهم إلى الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ؛ لأنهم سبب في إيجادها ، إذ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا " .

ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به . وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب ، أي : مخرجة . وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره اسما ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفا ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير ، فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف . ومنه : ( بل أنتم قوم تفتنون ) و " إنك امرؤ فيك جاهلية .


وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية كأنك منها قاعد في جوالق



وتارة يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : " كنتم خير أمة أخرجت " . ولو جاء أخرجتم ، فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربيا فصيحا . والأولى جعله " أخرجت للناس " صفة لأمة لا لخير ؛ لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت . وقيل : متعلق بخير . ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . وقيل : بتأمرون ، والتقدير : تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : ( إن كنتم للرؤيا تعبرون ) أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله ، قاله الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية ، روي هذا المعنى عن عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب . انتهى ، وقاله الراغب . والاستئناف أمكن وأمدح . وأجاز الحوفي في أن يكون " تأمرون " خبرا بعد خبر ، وأن يكون نعتا لخير أمة . قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ؛ لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالا في الأمر والنهي . وإنما الإيمان شرط للتأثير ؛ لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوة لأنه مستلزم له . انتهى ، وهو من كلام محمد بن عمر الرازي . وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله ؛ لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله . ويقولون : نؤمن ببعض الآية . انتهى . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله . والظاهر في المعروف والمنكر العموم . وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك .

( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ) أي ولو آمن عامتهم وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن ، كما يقول : [ ص: 30 ] من صدق كان خيرا له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلق كينونة الإيمان خيرا لهم على تقدير حصوله ؛ توبيخا لهم مقرونا بنصحه تعالى لهم أن لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله . و " خير " هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيرا لهم مما هم عليه ؛ لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا حظ دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين . وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها . انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن ، إذ الخيرية مطلقة ، فتحصل بأدنى مشاركة .

( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أن من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى ، إذ كانوا مصدقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث وبعده . وهذا يدل على أن المراد بقوله : ( ولو آمن أهل الكتاب ) الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب ؛ إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان . وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال ، أي : منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخبارا بمغيب ، وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في ( المؤمنون ) وفي ( الفاسقون ) يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك ظاهر ؛ لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن - فهو أيضا كامل في فسقه متمرد في كفره .

التالي السابق


الخدمات العلمية