صفحة جزء
( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) هاتان الجملتان تضمنتا الإخبار بمعنيين مستقبلين ، وهو : إن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئا تتأذون به ، لا ضررا يكون فيه غلبة واستئصال ؛ ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضررا يبالون به ، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم .

والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف ، التقدير : لن يضروكم ضررا إلا ضررا يسيرا لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم . وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم لكن أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر . وقيل : هو بهتهم وتحريفهم . وقيل : موعد وطعن . وقيل : كذب يتقولونه على الله . قاله الحسن وقتادة .

ودلت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى تحقير شأن [ ص: 31 ] الكفار ؛ إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلا ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء .

( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ) هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه . وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الأخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ؛ لأن حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم . وأتى بلفظ الأدبار لا بلفظ الظهور ؛ لما في ذكر الأدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب ؛ ولذلك ورد في القرآن مستعملا دون لفظ الظهور لقوله تعالى : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ( ومن يولهم يومئذ دبره ) .

( ثم لا ينصرون ) هذا استئناف إخبار أنهم لا ينصرون أبدا . ولم يشرك في الجزاء فيجزم ؛ لأنه ليس مرتبا على الشرط ، بل التولية مترتبة على المقاتلة . والنصر منفي عنهم أبدا ، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ؛ إذ منع النصر سببه الكفر . فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على " لن يضروكم إلا أذى " . وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم ، زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط . قال : وثم للتراخي ؛ فلذلك لم تصلح في جواب الشرط . والمعطوف على الجواب كالجواب ، وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ؛ لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام . قال تعالى : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط . وثم هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار . فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس . ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقا .

وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة ؛ لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار . ( فإن قلت ) ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ، ولن يضروكم ؟ ( قلت ) هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان ، فإن من شأنه كيت وكيت ؛ ولذلك جاء من غير عاطف .

( ضربت عليهم الذلة ) تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام . قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض .

( أين ما ثقفوا ) عام في الأمكنة . وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال : ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلا . وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ، ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر :


وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم



التقدير : سقيت وأسقيه إذا تغورت النجوم .

( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) هذا استثناء ظاهره الانقطاع ، وهو قول الفراء والزجاج ، واختيار ابن عطية ؛ لأن الذلة لا تفارقهم . وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال حميد بن نور الهلالي :

[ ص: 32 ]

رأتنـي بحبليها فصدت مخـافـة



ونظره ابن عطية بقوله تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) قال : لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل . انتهى كلامه . وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعا ؛ لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء منقطعا من الأول ، ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعا متصلا ، والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك ، ومنه هذه الآية على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم . ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ) فلم يستثن هناك . وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل ، قال : وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ، يعني ذمة الله وذمة المسلمين . أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية . انتهى كلامه . وهو متجه ، وشبه العهد بالحبل ؛ لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام . والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل الله بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد والذمة . وقيل : حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية . والثاني : هو الذي فوض إلى رأي الإمام ، فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد . وقيل : المراد حبل واحد ، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد .

( وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) تقدم تفسير نظائر هذه الجمل ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية