صفحة جزء
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) الآيات . قال ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء : نزلت في اليهود لما ضرب الله - تعالى - الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب ، والتراب ، والحجارة ، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح . قالوا : إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات ، فرد الله عليهم بهذه الآية . وقال الحسن ومجاهد والسدي وغيرهم : نزلت في المنافقين ، قالوا : لما ضرب الله - تعالى - المثل بالمستوقد والصيب قالوا : الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال بها ، فرد الله عليهم بهذه الآية ، وقيل : نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ؛ لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين ( والذين في قلوبهم مرض ) ، وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه متوافقين . وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب . وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه الله - تعالى - للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت . كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلئوا منها كان سببا لهلاكهم ، وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلا لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثوابا أو عقابا ، والأظهر في سبب النزول القولان الأولان . ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب . وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر :


وإني لألقى من ذوي الضغن منهم وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره     كما لقيت ذات الصفا من حليفها
وما انفكت الأمثال في الناس سائره



فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا بالله على أنها فدى ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر . والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير . وكذلك أيضا قرأت أمثالا في الزبور . فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد . وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل . وقد تقدم ذكرها عند قوله : ( وإياك نستعين ) ، وهذا هنا من الحياء . وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنيا عن المجرد بل هو موافق للمجرد ، وهو أحد المعاني أيضا الذي جاء لها استفعل . قال الزمخشري : يقال حيي [ ص: 121 ] الرجل كما يقال : نسي وخشي وشظي الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء ، جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار والتغير منكسر القوة منتقض الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلا ، انتهى كلامه . فظاهره أنه يقال : من الحياء حيي الرجل ، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرد ، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنيا عن المجرد . وقرأ ابن كثير في رواية شبل ، وابن محيصن ، ويعقوب : يستحي بياء واحدة ، وهي لغة بني تميم ، يجرونها مجرى يستبي ، قال الشاعر :


ألا تستحي منا ملوك وتتقي     محارمنا لا يبوء الدم بالدم



والماضي : استحى ، قال الشاعر :


إذا ما استجبن الماء يعرض نفسه     كرعن بسبت في إناء من الورد



واختلف النحاة في المحذوفة ، فقيل : لام الكلمة ، فالوزن يستفع ، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع . وقيل : المحذوف العين ، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل . وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين .

وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وليس هذا الحذف مختصا بالماضي والمضارع ، بل يكون أيضا في سائر التصرفات ، كاسم الفاعل واسم المفعول وغير ذلك . وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعديا بنفسه ، ويكون متعديا بحرف جر ، يقال : استحييته واستحييت منه . فعلى هذا يحتمل ( أن يضرب ) أن يكون مفعولا به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه ، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر . وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى : ( أن لهم جنات ) ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر ؟ .

واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله - تعالى - نفيه ، فقيل : المعنى لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، قاله الزمخشري وغيره ؛ لأن الترك من ثمرات الحياء ؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه ، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب . وقيل : المعنى لا يخشى ، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته ، ورجحه الطبري . وقد قيل في قوله تعالى : ( وتخشى الناس ) ، أن معناه تستحي من الناس . وقيل : المعنى لا يمتنع . وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى ، يجوز أن يوصف الله - تعالى - بها ، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله - تعالى - به ، وقيل : ينبغي أن تمر على ما جاءت ، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى ؛ لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق . والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله - تعالى - خاطبنا بلسان العرب ، وفيه الحقيقة والمجاز ، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه ، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى ، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه ، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله - تعالى - فلذلك أوله أهل العلم ، وقد جاء منسوبا إلى الله مثبتا فيما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " ، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وقد يجوز أيضا في الاستحياء ، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال ، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو :


إذا ما استجبن الماء يعرض نفسه



قال أبو تمام :


هو الليث ليث الغاب بأسا ونجدة     وإن كان أحيا منه وجها وأكرما



ويجوز أن يكون قوله تعالى : ( لا يستحيي ) على سبيل المقابلة ؛ لأنه روي أن الكفار قالوا : ما يستحي رب [ ص: 122 ] محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ، ومجيء الشيء على سبيل المقابلة وإن لم يكن من جنس ما قوبل به ، شائع في لسان العرب ، ومنه : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ، وجاء ذكر الاستحياء منفيا عن الله - تعالى - وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله - تعالى - فكل أمر مستحيل على الله - تعالى - إثباته يصح أن ينفى عن الله - تعالى - وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) ، ( لم يلد ولم يولد ) ، ( ما اتخذ الله من ولد ) ، ( وهو يطعم ولا يطعم ) ؟ ونقول : الله - تعالى - ليس بجسم . فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض ، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه ، ولا صحة نسبته إليه ، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره ، زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتا يجب أن لا يطلق على طريق النفي ، قال : فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكثرة ذلك ، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته له ، كثير في القرآن ولسان العرب ، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك . ويضرب : قيل معناه : يبين ، وقيل : يذكر ، وقيل : يضع ، من ضربت عليهم الذلة ، وضرب البعث على بني فلان ، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد ، وقيل : يضرب : في معنى يجعل ويصير ، كما تقول : ضربت الطين لبنا ، وضربت الفضة خاتما . فعلى هذا يتعدى لاثنين ، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها ، فيتعدى إلى اثنين ، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو . وما : إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعا ، كما تقول : ائتني برجل ما ، أي أي رجل كان . وأجاز الفراء وثعلب والزجاج : أن تكون ما نكرة ، وينتصب بدلا من قوله : مثلا . وقرأ الجمهور : بنصب بعوضة . واختلف في توجيه النصب على وجوه ، أحدها : أن تكون صفة لما ، إذا جعلنا ما بدلا من مثلا ، ومثلا مفعول بيضرب ، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما ، وهو قول الفراء . الثاني : أن تكون بعوضة عطف بيان ، ومثلا مفعول بيضرب . الثالث : أن تكون بدلا من مثل . الرابع : أن يكون مفعولا ليضرب ، وانتصب مثلا حالا من النكرة مقدمة عليها . والخامس : أن تكون مفعولا ليضرب ثانيا ، والأول هو المثل على أن " يضرب " يتعدى إلى اثنين . والسادس : أن تكون مفعولا أول ليضرب ، ومثلا المفعول الثاني . والسابع : أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار ، والمعنى : أن يضرب مثلا ما بين بعوضة فما فوقها ، وحكوا : له عشرون ما ناقة فجملا ، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين ، ونسبه المهدوي للكوفيين ، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء ، ويكون : مثلا مفعولا بيضرب على هذا الوجه ، وأنكر هذا النصب ، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه ، أبو العباس . وتحرير نقل هذا المذهب : أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي ، فينتصب ما بعدها ، سواء كان نكرة أم غير نكرة ، ويعطف عليه بالفاء فقط ، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو ، ولا ثم ، ولا أو ، ولا لا ، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف ، وهو بين ، فلما حذف بين ، قام هذا مقامه في الإعراب . ويقدرون الفاء بإلى ، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع . حكى الكسائي عن العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وما منصوبة بمطرنا . وحكى الكسائي والفراء عن العرب : هي أحسن الناس ما قرنا ، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير ، وتقول : هي حسنة ما قرنها إلى قدمها . قال الفراء : أنشدنا أعرابي من بني سليم :


يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم     ولا حبال محب واصل تصل



وقال الكسائي : سمعت أعرابيا نظر إلى الهلال فقال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك ، وحكى الفراء عن العرب : الشنق ما خما فعشرين . والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا ، وما في هذا المعنى لا تسقط ، فخطأ [ ص: 123 ] أن يقول : مطرنا زبالة فالثعلبية . وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون ، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا ، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح ، وذلك لواحد هو مثلا لقوله تعالى : ضرب مثل ، ولأنه المقدم في التركيب ، وصالح لأن ينتصب بيضرب . وما : صفة تزيد النكرة شياعا ؛ لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس . وبعوضة : بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات ، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي ، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس . وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج وقطرب : بعوضة بالرفع ، واتفق المعربون على أنه خبر ، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبرا ، فقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة ، وفي هذا وجهان ، أحدهما : أن هذه الجملة صلة لما ، وما موصولة بمعنى الذي ، وحذف هذا العائد ، وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين ، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة ، وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك في غير أي من الموصولات ، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة ، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلا ، التقدير : مثلا الذي هو بعوضة . والوجه الثاني : أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة ، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق ، وقيل : خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما ، على أن تكون استفهامية .

قال الزمخشري ، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها ، كما يقال : فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران ، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه ؛ لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحا على مذهب البصريين ، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام ، و " ما " من قوله : فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا ما موصولة وصلتها الظرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف ، والموصوفة أرجح . وإن رفعنا بعوضة ، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاما ، فذلك من عطف الجمل ، أو كانت البعوضة خبرا لهو محذوفة ، وما زائدة ، أو صفة فعطف على البعوضة ، إما موصولة أو موصوفة ، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت ، قاله ابن عباس : ويكون ذكر البعوضة تنبيها على الصغر ، وما فوقها تنبيها على الكبر ، وبه قال أيضا قتادة وابن جريج ، وقيل : المعنى فما فوقها في الصغر ، أي وما يزيد عليها في الصغر ، كما تقول : فلان أنذل الناس ، فيقال لك : هو فوق ذلك ، أي أبلغ وأعرق في النذالة ، قاله أبو عبيدة والكسائي . وقال ابن قتيبة : فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل ، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه ، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر . وقيل : أراد ما فوقها وما دونها ، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها ، كما اكتفى في قوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) عن قوله : والبرد ، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل ، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب . فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير ، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة ، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه ، أحدها : أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام ، وأظهر فيها مع صغر حجمها من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة . وإذا كل واحد منهما قد [ ص: 124 ] استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة ، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء . الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله - تعالى - خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال . الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحيي الله - تعالى - أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما قال تعالى : ( لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ؛ لأن الذي جعلها مثلا لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه . وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعا لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ، وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل . وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحيي ، أي فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، والأظهر الأول لدلالة قوله تعالى : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) فميز الله - تعالى - المشار إليه هنا بالمثل . والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق لدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : ( ماذا أراد الله ) .

وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي هاهنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام . أحدهما : أن تكون ما استفهاما في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما . وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي أراده الله . والثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاما ، وتركيب ذا مع ما ، وتكون مفعولا بإرادة التقدير ، أي شيء أراده الله ، وهذان الوجهان فصيحان . قال ابن عطية : واختلف النحويون في ماذا ، فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل : " ما " اسم و " ذا " اسم آخر بمعنى الذي ، " فما " في موضع رفع بالابتداء وذا خبر . انتهى كلام ابن عطية ، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك ، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين ، بل كل من شدا طرفا من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا ، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا . والإرادة بالتفسير اللغوي وهي ميل القلب إلى الشيء يستحيل نسبتها إلى الله - تعالى - . قال بعض المفسرين : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه . وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع ، لا في الوقوع ، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة . وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته ، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة ، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون [ ص: 125 ] بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل ، والكرامية تقول بحدوثها فيه تعالى ، وإنها إرادات كثيرة ، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم ، ومنهم من قال : يجوز عدمها ، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين

وانتصاب ( مثلا ) على التمييز عند البصريين ، أي من مثل ، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة ، أي متمثلا به ، والعامل فيه اسم الإشارة ، وهو كقولك لمن حمل سلاحا رديئا : ماذا أردت بهذا سلاحا ، فنصبه من وجهين : التمييز والحال من اسم الإشارة . وأجاز بعضهم أن يكون حالا من الله تعالى ، أي متمثلا . وأجاز الكوفيون أن يكون منصوبا على القطع . ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله ، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه ، نصب على القطع ، وجعلوا من ذلك :


وعالين قنوانا من البسر أحمرا



فأحمر عندهم من صفات البسر ، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع ، وكان أصله من البسر الأحمر ، كذلك قالوا : ما أراد الله بهذا المثل ، فلما لم يجر على إعراب ( هذا ) انتصب ( مثلا ) على القطع ، وإذا قلت : عبد الله في الحمام عريانا ، ويجيء زيد راكبا ، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي . وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع ، وما لا فمنصوب على الحال ، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال ، ولم يثبت البصريون النصب على القطع . والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو ، والمختار انتصاب ( مثلا ) على التمييز ، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكدا للاسم الذي أشير إليه .

( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد قال تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . فلا تنافي بينهما ; لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال . أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا ( كثيرا ) ذهابا إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر :


إن الكرام كثير في البلاد وإن     قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا



واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) في موضع الصفة لـ ( مثلا ) وكان المعنى : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية ، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا . وهذا الوجه ليس بظاهر ; لأن الذي ذكر أن الله لا يستحي منه هو ضرب مثل ما ، أي مثل كان ، بعوضة أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا ، إلا إن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخبارا من الله تعالى هو الظاهر . وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي ، كما أن إسناد الهداية كذلك ، فهو خالق الضلال والهداية ، وقد تئول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة ، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه ، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان ، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع . والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب ; لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم ، تسبب لضلالهم وهداهم . وقيل : ( يضل ) بمعنى يعذب ، كقوله تعالى : ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) قاله بعض المعتزلة ، ورد القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد : في ضلال عن الحق ، وجوز ابن عطية أن يكون قوله : ( يضل به كثيرا ) من كلام الكفار ، ويكون قوله : ( ويهدي به كثيرا ) إلى [ ص: 126 ] آخر الآية من كلام الله تعالى . وهذا الذي جوزه ليس بظاهر ; لأنه إلباس في التركيب ; لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجري على أنه من كلام الله ، وأما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار ، وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك ، فإنه يكون إلباسا في التركيب ، وكتاب الله منزه عنه .

وقرأ زيد بن علي : يضل به كثير ويهدى به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول .

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة . قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية . وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : ( يضل ) بضم الياء في الأول ، ( وما يضل ) به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضا في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة لي أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه . والظاهر أن الضمير في ( به ) في الثلاثة عائد على ( مثلا ) وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل . وقيل : الضمير في ( به ) من قوله : ( يضل به ) ، أي بالتكذيب في ( به ) من قوله : ( ويهدي به كثيرا ) ، أي بالتصديق . ودل على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون ) ( وأما الذين كفروا فيقولون ) .

ومعنى : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) ، أي : وما يكون ذلك سببا للضلالة إلا عند من خرج عن الحق . وقال بعض أهل العلم : معنى يضل ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالا على ضلاله ، ومن آمن به وصدق إيمانا على إيمانه

والفاسقين : مفعول ( يضل ) لأنه استثناء مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوبا على الاستثناء . ويكون مفعول ( يضل ) محذوفا تقديره : وما يضل به أحدا إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيدا ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيدا وبزيد معمولا للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ . وإذا لم يفرغ ، فإما أن يكون العامل طالبا مرفوعا ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، فيجوز حذفه - لأنه فضلة - وإثباته ، فإن حذفته كان الاسم الذي بعد ( إلا ) منصوبا على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيدا ، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا ، وما مررت إلا عمرا ، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا ، وما مررت إلا عمرا ، قال الشاعر :


نجا سالم والنفس منه بشدقه     ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا



يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف ، وإن أثبته ولم تحذفه ، فله أحكام مذكورة . فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في ( الفاسقين ) أن يكون معمولا لـ ( يضل ) ، ويكون من الاستثناء المفرغ ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء ويكون معمول ( يضل ) قد حذف لفهم المعنى . والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى . فتارة يكون ذلك بكفر ، وتارة يكون بعصيان غير الكفر .

قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين ، أي بين منزلة المؤمن والكافر . وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء ، رضي الله عنه وعن أشياعه ، وكونه بين بين ، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ، ويوارث ، ويغسل ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم ، واللعن ، والبراءة منه ، واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل شهادته . ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه ، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى : ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) ، يريد اللمز والتنابز ، ( إن المنافقين هم الفاسقون ) . انتهى كلام الزمخشري . وهو جار على مذهبه الاعتزالي

والذي [ ص: 127 ] عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمنا وفسق بمعصية دون الكفر ، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه ، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان ، ولا بلغ حد الكفر . وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنبا فقد كفر بعد إيمانه . ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك . ومنهم من قال : كل معصية نفاق ، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق . وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري ، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة ، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيه ، فإن الأمة كانوا على قولين ، فأحدثوا قولا ثالثا فسموا معتزلة لذلك ، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية