صفحة جزء
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) : يحتمل النصب والرفع . فالنصب من وجهين : إما على الاتباع ، وإما على القطع ، أي أذم الذين . والرفع من وجهين : إما على القطع ، أي هم الذين ، وإما على الابتداء ، ويكون الخبر الجملة من قوله : ( أولئك هم الخاسرون ) . وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد ، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الإتباع ، وتكون هذه الصفة صفة ذم ، وهي لازمة ، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله

واختلفوا في تفسير العهد على أقوال : أحدها : أنه وصية الله إلى خلقه وأمره لهم بطاعته ، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة . ونقضهم له تركهم العمل به . الثاني : أنه العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله : ( وإذ أخذ ربك ) الآية ، ونقضهم له : كفر بعضهم بربوبيته ، وبعضهم بحقوق نعمته . الثالث : ما أخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده ، والاعتراف بنعمه ، والتصديق لأنبيائه ورسله ، وبما جاءوا به في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) الآية ، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم ، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلى الله عليه وسلم . الرابع : ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي - صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ) الآية ، ونقضهم له : إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته . الخامس : إيمانهم به - صلى الله عليه وسلم - ورسالته قبل بعثه ، ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته . السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله ، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ، ونبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم . السابع : الأمانة المعروضة على السماوات والأرض التي حملها الإنسان ، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها . الثامن : ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه ، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل . التاسع : هو الإيمان والتزام الشرائع ، ونقضه كفره بعد الإيمان .

وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد ، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في سبب النزول ، والعموم هو الظاهر . فكل من نقض عهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم ، و ( من ) متعلقة بقوله ينقضون ، وهي لابتداء الغاية ، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما ، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد ، فأثر ما استوثق الله منهم نقضوه . وقيل : ( من ) زائدة وهو بعيد ، والميثاق مفعول من الوثاقة ، وهو الشد في العقد ، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين . وليس المعنى هنا على ذلك ، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول . قال أبو محمد بن عطية : هو اسم في موضع المصدر ، كما قال عمرو بن شييم :


أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا



[ ص: 128 ] أراد بعد إعطائك . انتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر ، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة ، كما أن الميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة ، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدرا ، والأصل في مفعال أن يكون وصفا نحو : مطعام ومسقام ومذكار . وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج ، وكلام أبي عبد الله بن مالك ، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر ، فلم يذكرا مفعالا في أبنية المصادر . والضمير في ميثاقه عائد على العهد ; لأنه المحدث عنه ، وأجيز أن يكون عائدا على الله تعالى ، أي من توثيقه عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق . قال أبو البقاء : إن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافا إلى الفاعل ، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافا إلى المفعول ، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر .

( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) : و ( ما ) موصولة بمعنى الذي ، وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، قاله الحسن ، وفيه ضعف ، إذ لو كان كما قال لكان ( من ) مكان ( ما ) . الثاني : القول ، أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما ، قالوا ولم يعملوا ، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) . الثالث : التصديق بالأنبياء ، أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض . الرابع : الرحم والقرابة ، قاله قتادة ، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومن أشبههم . الخامس : أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل ، وهذا هو الأوجه ; لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ، ولا دليل واضح على الخصوص .

وأجاز أبو البقاء أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة ، وقد بينا ضعف القول بأن ( ما ) تكون موصوفة خصوصا هنا ، إذ يصير المعنى : ويقطعون شيئا أمر الله به أن يوصل ، فهو مطلق ، ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما ، والأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى ، قال الزمخشري : وبعثه عليه . وهي نكتة اعتزالية لطيفة ، قال : وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ; لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : ( أمر ) تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له : شأن ، والشأن الطلب والقصد ، يقال شأنت شأنه ، أي قصدت قصده ، وأمر يتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف لفهم المعنى ، أي ما أمر الله به ، ( وأن يوصل ) في موضع جر بدل من الضمير في ( به ) تقديره به وصله ، أي ما أمرهم الله بوصله ، نحو قول الشاعر :


أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص     فتقصر عنها حقبة وتبوص



أي أمن ذكر سلمى نأيها .

وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون ( أن يوصل ) في موضع نصب بدلا من ( ما ) أي وصله ، والتقدير : ويقطعون وصل ما أمر الله به . وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله ، وقدره المهدوي : كراهية أن يوصل ، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل . وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( أن يوصل ) في موضع رفع ، أي هو أن يوصل . وهذه الأعاريب كلها ضعيفة ، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا . والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله ، وسواه من الأعاريب بعيد عن فصيح الكلام ، بله أفصح الكلام وهو كلام الله .

( ويفسدون في الأرض ) ، فيه أربعة أقوال : أحدها : استدعاؤهم إلى الكفر والترغيب فيه ، وحمل الناس عليه . الثاني : إخافتهم السبيل ، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم . الثالث : نقض العهد . الرابع : كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها . وقال ابن عطية : يعبدون غير الله ، ويجوزون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا قريب من القول الرابع . وقد تقدم ما معنى ( في الأرض ) [ ص: 129 ] والتنبيه على ذكر الأرض ، عند الكلام على قوله : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، فأغنى عن إعادته هنا . وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان بالطباق . وقد تقدم شيء منه ، وهو أن تأتي بالشيء وضده ، ووقع هنا في قوله تعالى : ( بعوضة فما فوقها ) ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير ، وفي قوله : ( فأما الذين آمنوا ) ، ( وأما الذين كفروا ) ، وفي قوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) وفي قوله : ( ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) ، وفي قوله : ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق ، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله ، فالضلال بعد الهداية لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ ، والنقض بعد التوثقة ، والقطع بعد الوصل . فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق . وفي وصل ( الذين ) بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد ، وإشعار أيضا بالديمومة ، وهو أبلغ في الذم ، وبناء ( يوصل ) للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل ; لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم .

وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن ; لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد ، وهو أخص هذه الثلاث ، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله ، وهو أعم من نقض العهد وغيره ، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع ، وكلها ثمرات الفسق ، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة ، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا ، وتكون النتائج عنه متجددة متكررة ، فيكون الذم لهم أبلغ ; لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدد فروعه ونتائجه ، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله : ( أولئك ) ، أي : أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد .

( هم الخاسرون ) : وفسر ( الخاسرون ) بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة ، وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم . والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم . وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين . قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية