صفحة جزء
( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص . وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ؛ إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج مبادرا يريد عيرا لقريش ، فلم يظنوا حربا ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدو ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد . فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظانا أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : قتلت محمدا ، وصرخ بذلك صارخ ، وفشا ذلك في الناس ، انكفوا فارين ، فدعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إلي عباد الله " حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين . فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت . وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ؛ إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنيا لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة ؛ لما فيها من الكرامة عند الله . وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردكم الله تعالى فقال :


لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا




حتى يقولوا إذا مروا على جدثي     أرشده الله من غاز وقد رشدا



( من قبل أن تلقوه ) أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه . وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدو ، وأضمر لدلالة الكلام عليه . والأول أظهر ؛ لأنه يعود على مذكور . وقرأ النخعي والزهري : تلاقوه ، ومعناها ومعنى تلقوه سواء من حيث إن معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإن لم يكن على وزن فاعل . وقرأ مجاهد " من قبل " بضم اللام مقطوعا عن الإضافة ، فيكون موضع أن تلقوه نصبا على أنه بدل اشتمال من الموت . " فقد رأيتموه " أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال :


لقـد رأيت المـوت قبل ذوقــه



وقال :


ووجدت ريح الموت من تلقائهم     في مأزق والخيل لم تتبدد



وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضرا ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جدا ؛ ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين . وقرأ طلحة بن مصرف : " فلقد رأيتموه " باللام . " وأنتم تنظرون " جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله " رأيتموه " من المجاز ، أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم ، وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر . وقيل : وأنتم بصراء ، أي ليس بأعينكم علة . ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضا . وقيل : تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما فعل به . وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية . وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم ، وهو عائد على الموت . [ ص: 68 ] وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الإخبار أتى بها على سبيل التوبيخ . فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم . وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيرا بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أن متعلق تمنيكم نكصتم عنه ، وقال ابن الأنباري : يقال : إن معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ؛ لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى رؤية العين . انتهى . ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة ، إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الإبصار ، لا المقابلة والمواجهة .

التالي السابق


الخدمات العلمية