صفحة جزء
( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ) : الأمنة : الأمن ، قاله ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه . وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن . أو جمع آمن كـ بار وبررة ، ويأتي إعرابه . وقرأ النخعي وابن محيصن : " أمنة " بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون ، وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة ، والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .

فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي وكان من المتحيزين إليه : " اذهب فانظر إلى القوم ، فإن كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا " ووطنهم على القتال ، فمضى علي ، ثم رجع فأخبر أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالا ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألقى الله تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في [ ص: 86 ] المصاف . وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك . قال تعالى : ( فأثابكم غما بغم ) . والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون . والفاعل بـ " أنزل " ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على " فأثابكم " . و " عليكم " يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز ؛ لأن حقيقته في الأجرام . وأعربوا " أمنة " مفعولا بأنزل ، ونعاسا بدل منه ، وهو بدل اشتمال ؛ لأن كلا منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك . أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين ؛ لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف ، أو مفعول من أجله وهو ضعيف ؛ لاختلال أحد الشروط وهو اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين . وقيل : نعاسا هو مفعول " أنزل " ، وأمنة حال منه ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاسا ذا أمنة ؛ لأن النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة ، قاله الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاسا مفعولا من أجله .

( يغشى طائفة منكم ) : هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ؛ لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .

وقرأ حمزة والكسائي : " تغشى " بالتاء حملا على لفظ أمنة ، هكذا قالوا . وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ؛ لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاسا بدلا أو عطف بيان لا يتم له ذلك ؛ لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولا من أجله ففيه أيضا الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم - جاز ذلك . وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه . انتهى .

لما أعرب نعاسا بدلا من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه . فإذا قلت : إن هندا حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله :


إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب



وبقول الآخر :


وكأنه لهق السراة كأنه     ما حاجبيه معين بسواد



فقال : تركت ، ولم يقل تركا . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه . و " ما " زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبرا عن حاجبيه ؛ لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال :

[ ص: 87 ]

لمن زحلوقة زل     بها العينان تنهل



وقال :


وكأن في العينين حب قرنفل     أو سنبلا كحلت به فانهلت



فقال : تنهل ، وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به ، وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال :

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان

فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف . وقرأ الباقون : " يغشى " بالياء ، حمله على لفظ النعاس .

التالي السابق


الخدمات العلمية