صفحة جزء
( فبما رحمة من الله لنت لهم ) متعلق الرحمة المؤمنون . فالمعنى : فبرحمة من الله عليهم لنت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم . أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله إياهم . وقيل : متعلق الرحمة المخاطب ، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتنانا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم .

و " ما " هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية . وذهب بعض الناس إلى أنها نكرة تامة ، و " رحمة " بدل منها . كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة . وكأن قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنها زائدة . وقيل : " ما " هنا استفهامية . قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون " ما " استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة [ ص: 98 ] ثم إنه ما أظهر ألبتة تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك . انتهى كلامه . وما قاله المحققون صحيح ، لكن زيادة " ما " للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلا عن من يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاما للتعجب . ثم إن تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطأ من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف " ما " الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير " أي " بلا خلاف ، و " كم " على مذهب أبي إسحاق . والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلا ، وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه قول الزجاج في " ما " هذه : إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين .

( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) : بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه . وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرقوا من حولك هيبة منك وحياء ، فكان ذلك سببا لتفرق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعا للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى . وقال تعالى في حق الكفار : ( واغلظ عليهم ) وفي وصفه في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق . والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعا للتأكيد . وقيل : الفظاظة الجفوة قولا وفعلا . وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلبا لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة ، تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره .

( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) : أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصا به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم . وفيها فوائد : تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي ؛ فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح . وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء ؛ ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم أجمعين . وفيماذا أمر أن يشاورهم : قيل : في أمر الحرب والدنيا . وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ؛ ولذلك استشار في أسرى بدر .

وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على ترتيب زماني ، وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما [ ص: 99 ] يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض . أمر أولا بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه عليهم ، وعدم مؤاخذته . ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه ورضا الله تعالى . ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة والعقل والتجربة . والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمر له بالعفو . وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسئول الاستغفار لأجله . قيل : فرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرماة عن مراكزهم . وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات . وقول بعضهم : أن كان ابن عمتك ، وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة . ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : إن قوله تعالى : " وشاورهم في الأمر " ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر . وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار . وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له . والمستشار في الدين عالم دين ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل . قال الحسن : ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب واد في المستشير . انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص . وقراءة الجمهور : " في الأمر " ، وليس على العموم . إذ لا يشاور في التحليل والتحريم . والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض . وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر .

( فإذا عزمت فتوكل على الله ) : أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك . وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه . وإن ذلك مطلوب شرعا خلافا لما كان عليه بعض العرب من ترك المشورة ، ومن الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال :


إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا     ولم يستشر في رأيه غير نفسه
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا



وقرأ الجمهور " عزمت " على الخطاب كالذي قبله . وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق " عزمت " بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى ، والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ، ويكون قوله : " على الله " من باب الالتفات ، إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان : فتوكل علي ، ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم الله .

( إن الله يحب المتوكلين ) : حث على التوكل على الله ، إذ أخبر أنه يحب من توكل عليه ، والمرء ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى .

وقد تضمنت هذه الآيات فنونا من البيان والبديع والإبهام في : " ولا تلوون على أحد " ، فمن قال : هو الرسول ، أبهمه تعظيما لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره . والتجنيس المماثل في : " غما بغم " ، " ثم أنزل عليكم من بعد الغم " . والطباق في : يخفون ويبدون ، وفي : فاتكم وأصابكم . والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي : فتوكل والمتوكلين . وذكر بعضهم ذلك في : فظا ولانفضوا ، وليس منه ؛ لأنه قد اختلفت المادتان . والتفسير بعد الإبهام في : ما لا يبدون يقولون . والاحتجاج النظري في : " لو كنتم في بيوتكم " ، [ ص: 100 ] والاعتراض في : " قل إن الأمر كله لله " . والاختصاص في : " بذات الصدور " ، وفي " بما تعملون بصير " ، وفي يحب المتوكلين . والإشارة في قوله : " ليجعل الله ذلك حسرة " . والاستعارة في : " إذا ضربوا في الأرض " ، وفي : " لنت " ، وفي " غليظ القلب " ، والتكرار في : " ما ماتوا وما قتلوا " ، وما بعدهما ، وفي : على الله إن الله . وزيادة الحرف للتأكيد في : " فبما رحمة " . والالتفات والحذف في عدة مواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية