صفحة جزء
( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ) [ ص: 106 ] الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار . وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال . وقال الزمخشري : و " لما " نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجر بإضافة " لما " إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . وأنى هذا نصب ! لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع . ( فإن قلت ) : علام عطفت الواو هذه الجملة ؟ ( قلت ) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : ( ولقد صدقكم الله وعده ) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ؟ . انتهى .

أما العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " . ففيه بعد ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن . وأما العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه . وأما على مذهب الجمهور : سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها . وأما قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا - فجعل لما بمعنى حين ، فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي . زعم أن لما ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جر بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جوابا لها في نحو : لما جاء زيد جاء عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء ، من قولك : جاء عمرو . وأما مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح . وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى بالتكميل .

والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال . وإسناد الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال . وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ؛ لأنهم فدوا ، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام . هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولا يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد . وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة ؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول ؛ لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على [ ص: 107 ] طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية . وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية . وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد .

وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم . قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة ؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك . وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ؛ لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب . وقال الزمخشري : أنى هذا : من أين هذا ، كقوله : " أنى لك هذا " ؛ لقوله : " من عند أنفسكم " وقوله : " من عند الله " . انتهى كلامه . والظرف إذا وقع خبرا للمبتدأ لا يقدر داخلا عليه حرف جر غير " في " ، أما أن يقدر داخلا عليه " من " ، فلا ؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط " في " . وكذلك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة " في " إلا أن يتسع في الفعل فينصب نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري أنى هذا : من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : " من عند أنفسكم " ، وقوله : " من عند الله " ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها . وأما على ما قررناه ، فإن الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ . وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ . والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : " من عند أنفسكم " يتضمن تعيين الكيفية ؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيع .

( قل هو من عند أنفسكم ) : الإضمار في " هو " راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ . وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط ؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين ؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم . فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه عمر بن الخطاب ، وعلي ، والحسن ، وروى علي في ذلك أنه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا محمد ، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس ، فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره " . فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا . وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة . وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين . وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص ، فقال : المعنى أنتم السبب فيما [ ص: 108 ] أصابكم ؛ لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز . وعن علي : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم . انتهى . ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفا بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم . والظاهر في قوله : " أنى هذا " هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب .

وذكر الرازي أن الله لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنى هذا . فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم . انتهى كلامه . ودل على أن قوله : " أنى هذا " من كلام المنافقين . وقال الماتريدي أيضا : إنه من كلام المنافقين . والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : " أولما أصابتكم مصيبة " ؛ لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ؛ لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ، ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : " أصابتكم مصيبة " بمعنى أصابت أقرباءكم وإخوانكم ، فهو يمكن على بعد .

( إن الله على كل شيء قدير ) : أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى . ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ؛ لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال .

التالي السابق


الخدمات العلمية