صفحة جزء
( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) : الخطاب في " أنتم " للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضا من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال . قاله مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق . وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين . قاله قتادة ، والسدي . قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار ، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت . فقيل لهم : لا بد من التمييز . وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين . وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين ، فقال : ( فإن قلت ) : لمن الخطاب في أنتم ؟ ( قلت ) : للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بإخباره بأحوالكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم ، كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم ، وشاهدا بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإن ذلك مما استأثر الله به . انتهى . ومعنى هذا القول لابن كيسان . قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته .

وقيل : المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم . وقيل : كانوا يستهزءون بالمؤمنين سرا ، فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في الجنة . والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد . وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، [ ص: 126 ] ميز بينهما يوم أحد . وقيل : الخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر . وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا . وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ؛ إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : ( الخبيثات للخبيثين ) الآية .

واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع . وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي . ومذهب البصريين أن خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأن اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأن التقدير : ما كان الله مريدا ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريدا لترك المؤمنين . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل . وحتى للغاية المجردة ، والتقدير : إلى أن يميزها . كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ؛ لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيدا إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيدا ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له . ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب . وقرأ الأخوان : " يميز " من ميز ، وباقي السبعة " يميز " من ماز . وفي رواية عن ابن كثير : " يميز " من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرد كحزن وأحزن ، وقدر الله وقدر .

( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) : لما قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحدا من المخاطبين على الغيب .

( ولكن الله يجتبي ) : أي : يختار ويصطفي .

( من رسله من يشاء ) : فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكن هنا لكون ما بعدها ضدا لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله إطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فإطلاع الرسول على الغيب هو بإطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأن في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا ، فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة إطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافرا ، ولكن هذا رسول مجتبى . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحد أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال . وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : لم لم يوح إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا ، فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت . وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزلها الله بعد بعثته . ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولا فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ؛ لأنه تعالى لم يطلعكم على ما [ ص: 127 ] أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بإخباره لكم عن ذلك بوحي الله . وهذا معنى ما روي أيضا عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبه فيقولون : إن فلانا منافق ، وفلانا مؤمن . بل سنة الله تعالى جارية بأن لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ؛ ولهذا قال تعالى : " ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأن هذا الغيب الذي نفى الله إطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام .

( فآمنوا بالله ورسله ) : لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبى ومن يشاء هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إذ ثبتت نبوته بإطلاع الله إياه على المغيبات ، وإخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله : " ورسله " تنبيها على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم . قال الزمخشري في قوله تعالى : " فآمنوا بالله ورسله " ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعا على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء . انتهى .

( وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ) : رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة ، فكأنه قيل : فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية