صفحة جزء
( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج ؟ أو للأولياء ؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء . وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، والضمير في ( منه ) عائد على الصداق ، قاله عكرمة . إذ لو وقع مكان ( صدقاتهن ) لكان جائزا وصار شبيها بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية : هو أحسن فتى . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه . فلو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا . انتهى . وأقول : حسن تذكير الضمير ، لأن معنى فإن طبن : فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال ( منه ) ، أي : من صداقها ، وهو [ ص: 167 ] نظير وأعتدت لهن متكأ أي لكل واحدة ، ولذلك أفرد ( متكأ ) . وقيل : يعود على ( صدقاتهن ) مسلوكا به مسلك اسم الإشارة ، كأنه قيل : عن شيء من ذلك . واسم الإشارة وإن كان مفردا قد يشار به إلى مجموع ؛ كقوله : ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ) . وقد تقدمت عليه أشياء كثيرة . وقيل لرؤبة : كيف قلت :

كأنه في الجلد توليع البهق

وقد تقدم :

فيها خطوط من سواد وبلق

فقال : أردت كان ذاك . وقيل : يعود على المال ، وهو غير مذكور ، ولكن يدل عليه ( صدقاتهن ) . وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه ( وآتوا ) ، قاله الراغب ، وذكره ابن عطية . ويتعلق المجروران بقوله : طبن ، و ( منه ) في موضع الصفة لشيء ، فيتعلق بمحذوف ، وظاهر ( من ) التبعيض . وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضا من الصداق ، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير . وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا . وكذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك .

وانتصب ( نفسا ) على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل . وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصبا عن تمام الجملة ، فإما أن يكون موافقا لما قبله في المعنى ، أو مخالفا ، فإن كان موافقا طابقه في الجمعية ، نحو : كرم الزيدون رجالا ، كما يطابق لو كان خبرا . وإن كان مخالفا ، فإما أن يكون مفرد المدلول أو مختلفه ، إن كان مفرد المدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلا وأبا . وكقولك : زكا الأتقياء متقيا ، وجاد الأذكياء وعيا . وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله . وإن كان مختلف المدلول ، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد ، أو لا يلبس . فإن ألبس وجبت المطابقة ، نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : كرم آباء الزيدين . ولو قلت : كرم الزيدون أبا ، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم . وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع . والإفراد أولى ، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ؛ إذ معلوم أن لكل نفسا ، وأنهن لسن مشتركات في نفس واحدة . وقر الزيدون عينا ، ويجوز أنفسا وأعينا . وحسن الإفراد أيضا في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده ، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفسا .

وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى . والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع . وجواب الشرط : فكلوه ، وهو أمر إباحة . والمعنى : فانتفعوا به . وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع .

وهنيئا مريئا ، أي : شافيا سائغا . وقال أبو حمزة : هنيئا لا إثم فيه ، مريئا لا داء فيه . وقيل : هنيئا لذيذا ، مريئا محمود العاقبة . وقيل : هنيئا مريئا أي ما لا تنغيص فيه . وقيل : ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه . وقيل : هنيئا مريئا أي : حلالا طيبا . وقرأ الحسن والزهري : ( هنيا مريا ) دون همزة ، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء ، وأدغموا فيها ياء المد . وانتصاب هنيئا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فكلوه أكلا هنيئا ، أو على أنه حال من ضمير المفعول ، هكذا أعربه الزمخشري وغيره . وهو قول مخالف لقول أئمة العربية ، لأنه عند سيبويه وغيره - منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره . وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك . فعلى ما قاله أئمة العربية يكون ( هنيئا مريئا ) من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئا مريئا ، ولا تعلق له به من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى . وجماع القول في ( هنيئا ) : أنها حال قائمة مقام الفاعل الناصب لها . فإذا قيل : إن فلانا أصاب خيرا فقلت هنيئا له ذلك ، فالأصل : ثبت له ذلك هنيئا ، فحذف ( ثبت ) ، وأقيم ( هنيئا ) مقامه . واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك . فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ( ثبت ) ، و ( هنيئا ) حال من ذلك ، وفي ( هنيئا ) ضمير يعود على ذلك . وإذا قلت : ( هنيئا ) ، ولم تقل له ذلك ، بل اقتصرت على قولك : هنيئا ، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ( ثبت ) المحذوفة . وذهب الفارسي [ ص: 168 ] إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئا له ذلك ، مرفوع بهنيئا القائم مقام الفعل المحذوف ، لأنه صار عوضا منه ، فعمل عمله . كما أنك إذا قلت : زيد في الدار ، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعا بمستقر ، لأنه عوض منه . ولا يكون في ( هنيئا ) ضمير ، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة . وإذا قلت : هنيئا ففيه ضمير فاعل بها ، وهو الضمير فاعلا لثبت ، ويكون هنيئا قد قام مقام الفعل المختزل مفرعا من الفعل . وإذا قلت : هنيئا مريئا ، فاختلفوا في نصب مريء . فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئا ، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي . وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك ( هنيئا ) ، فالتقدير عنده : ثبت مريئا ، ولا يجوز عنده أن يكون صفة ل ( هنيئا ) ، من جهة أن ( هنيئا ) لما كان عوضا من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه ، والفعل لا يوصف ، فكذلك لا يوصف هو . وقد ألم الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في ( هنيئا ) ؛ لكنه حرفه ، فقال بعد أن قدم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر ، أو حال من الضمير في ( فكلوه ) أي : كلوه وهو هنيء مريء - قال : وقد يوقف على ( فكلوه ) ، ويبتدأ ( هنيئا مريئا ) على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر ، كأنه قيل : هنئا مرئا ، انتهى . وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ ، فصار كقولك : سقيا ورعيا ، أي : هناءة ومراءة . والنحاة يجعلون انتصاب ( هنيئا ) على الحال ، وانتصاب مريئا على ما ذكرناه من الخلاف . إما على الحال ، وإما على الوصف . ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة - ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد ( هنيئا مريئا ) . ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر ، والمراد بها : الدعاء - أجاز ذلك فيها تقول : سقيا لك ورعيا ، ولا يجوز سقيا الله لك ، ولا رعيا الله لك ، وإن كان ذلك جائزا في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك . والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر :


هنيئا مريئا غير داء مخامر     لعزة من أعراضنا ما استحلت



ف ( ما ) : مرفوع بما تقدم من هنيء أو مريء . أو بـ ( ثبت ) المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي علي على طريق الإعمال . وجاز الإعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف ، لكون ( مريئا ) لا يستعمل إلا تابعا ل ( هنيئا ) ، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك . ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت : قام خرج زيد ، لم يصح أن يكون من الإعمال إلا على نية حرف العطف . وذهب بعضهم إلى أن مريئا يستعمل وحده غير تابع ل ( هنيئا ) ، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب ، و ( هنيئا مريئا ) اسما فاعل للمبالغة . وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فعيل ، كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر .

وظاهر الآية يدل على أن المرأة إذا وهبت لزوجها شيئا من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق ، أو سوء معاشرة ، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به . ولم يوقت هذا التبرع بوقت ، ولا استثناء فيه رجوع . وذهب الأوزاعي : إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد ، أو تقم في بيت زوجها سنة ، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان : لها أن ترجع . وروي مثله عن عمر . كتب عمر إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك . قال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت . وقال عبد الملك : قال تعالى : [ ص: 169 ] ( فلا تأخذوا منه شيئا ) وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية . وفي تعليق القبول على طيب النفس دون لفظة الهبة أو الإسماح - دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ ، وإعلام أن المراعى هو طيب نفسها بالموهوب . وفي قوله : هنيئا مريئا مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية