صفحة جزء
( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) قيل : توفي رفاعة وترك ابنه ثابتا صغيرا ، فسأل : إن ابن أخي في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ ومتى أدفع إليه ماله ؟ فنزلت . وقيل : توفي أوس بن ثابت ، ويقال : أوس بن سويد عن زوجته أم كجة وثلاث بنات وابني عم سويد . وقيل : السدي وعرفجة ، فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئا . وقيل : المانع إرثهن هو عم بنيها ، واسمه ثعلبة . وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر ، فشكتهما أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما ، فقال : لا يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكي عدوا ، فقال : ( انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله ) فنزلت .

وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم ، قاله ابن عباس والسدي ، ومقاتل ، و سفيان . أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها . ذكره الثعلبي . وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسير من المال يتصرف فيه ، والوصي يراعي حاله فيه لئلا يتلفه . واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعا وأجرة واستيفاء . واختلاف كل منهما بحال ما يليق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع ، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله ، وأشهد عليه ، هذا ظاهر الآية ، وهو يعقب الدفع . والإشهاد الإيناس المشروط . وقال ابن سيرين : لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة ، وتداوله الفصول الأربع ، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ ، ولا بماذا يكون . وتكلم فيها هنا بعض المفسرين . والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه . وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجورا عليه دائما ، ولا يدفع إليه المال ، وبه قال الجمهور . وقال النخعي وأبو حنيفة : ينتظر به خمس وعشرون سنة ، ويدفع إليه ماله ، أونس منه الرشد أو لم يؤنس . وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به . وقالت طائفة : يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم . وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم ، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك . فقيل : يعتبر رشدها ، وإن لم تتزوج بالبلوغ . وقيل : المدة بعد الدخول خمسة أعوام . وقيل : سنة . وقيل : سبعة في ذات الأب ، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها .

و ( حتى ) هنا غاية للابتلاء ، ودخلت على الشرط وهو ( إذا ) ، وجوابه : فإن آنستم ، وجوابه وجواب ( إن الله ) : ( فادفعوا ) . وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح ، فيلزم أن يكون بعده . و ( حتى ) إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة ، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله :


وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وقوله :


وحتى ماء دجلة أشكل

على أن في هذه المسألة خلافا ذهب الزجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر ، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة ألبتة . وفي قوله : بلغوا النكاح تقدير محذوف ، وهو : بلغوا حد النكاح أو وقته . وقال ابن عباس : معنى آنستم عرفتم . وقال عطاء : رأيتم . [ ص: 172 ] وقال الفراء : وجدتم . وقال الزجاج : علمتم . وهذه الأقوال متقاربة .

وقرأ ابن مسعود : ( فإن أحستم ) ، يريد أحسستم . فحذف عين الكلمة ، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة . وحكى غير سيبويه : أنها لغة سليم ، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه . وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن و أبو السمال و عيسى الثقفي : ( رشدا ) بفتحتين . وقرئ شاذا : ( رشدا ) بضمتين ، ونكر ( رشدا ) لأن معناه نوع من الرشد ، وطرف ومخيلة من مخيلته ، ولا ينتظر به تمام الرشد . قال ابن عطية : و مالك يرى الشرطين : البلوغ والرشد ، وحينئذ يدفع المال . وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه ، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد . وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت . والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سببا في الشرط ، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه . فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط ، وهو الرشد حينئذ . وفصاحة الكلام تدل على ذلك ؛ لأن التوقيت بالبلوغ جاء بـ ( إذا ) ، والمشروط جاء بـ ( إن ) التي هي قاعدة حروف الشرط . و ( إذا ) ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر . وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا . واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها . ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر . انتهى كلامه . ودل كلامه على أن ( إذا ) ظرف مجرد من معنى الشرط ، وهذا مخالف لكلام النحويين . بل النحويون كالمجمعين على أن ( إذا ) ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالبا ، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط ، لا نفى كونها تأتي للشرط . وكيف تقول ذلك ، والغالب عليها أنها تكون شرطا ؟ ولم تتعرض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ ، ودفع إليه ماله ، ثم عاد إلى السفه ، أيعود الحجر عليه أم لا ؟ وفيه قولان : قال مالك : يعود . وقال أبو حنيفة : لا يعود ، والقولان عن الشافعي .

( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ ؛ لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ . وهذه الجملة مستقلة . نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف ، وليست معطوفة على جواب الشرط ، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح . وهو معارض لقوله : وبدارا أن يكبروا ، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه ، وذلك ممتنع . وبهذا الذي قررناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفا على فادفعوا ، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما ، فيكون من باب دليل الخطاب . والإسراف الإفراط في الإنفاق ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق . قال :


أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية     ما في عطائهم من ولا سرف



أي : ليس يخطئون مواضع العطاء . قال ابن عباس وغيره : ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ، ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله .

وانتصب ( إسرافا وبدارا ) على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : مسرفين ومبادرين . والبدار مصدر بادر ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين . لأن اليتيم مبادر إلى الكبر ، والولي مبادر إلى أخذ ماله ، فكأنهما مستبقان . ويجوز أن يكون من واحد ، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله ، أي : لإسرافكم ومبادرتكم . و ( أن يكبروا ) مفعول بالمصدر ، أي : كبركم ؛ كقوله : أو إطعام يتيما وفي إعمال المصدر المنون خلاف . وقيل : التقدير : مخافة أن يكبروا ، فيكون أن يكبروا مفعولا من أجله ، ومفعول ( بدارا ) محذوف .

[ ص: 173 ] ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم ، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنيا ، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى ، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيرا ، بحيث يأخذ قوتا محتاطا في تقديره .

وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه ، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعته بما لا يكون رفيعا من الثياب ، ولا يقضي إذا أيسر ، قاله إبراهيم ، و عطاء ، والحسن ، والسدي ، وعلى هذا القول الفقهاء . وقال عمر وابن عباس ، و عبيدة ، و الشعبي ، و مجاهد ، وأبو العالية ، وابن جبير : يقضي إذا أيسر ، ولا يستلف أكثر من حاجته . وبه قال الأوزاعي . وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية ، والحسن ، و الشعبي : إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن ، وأكل من التمر ، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض ، ويجذ التمر وما أشبهه . فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها .

وقالت طائفة : المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وهذه رواية عن الإمام أحمد . وفصل الحسن بن حي فقال : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وأجرته على بيت المال . وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا : إن كان وصي اليتيم مقيما فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئا ، وإن كان مسافرا فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئا . وفصل الشعبي فقال : إن كان مضطرا بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته ورد إذا وجد ، وإلا فلا يأكل لا سفرا ولا حضرا . وقال مجاهد : هذه الإباحة منسوخة بقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . وقال أبو يوسف : لعلها منسوخة بقوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) فليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره . وقال ابن عباس والنخعي أيضا : هذا الأمر ليس متعلقا بمال اليتيم ، والمعنى : أن الغني يستعفف بغناه ، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه ، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه . واختار هذا القول من الشافعية إلكيا الطبري . وقيل : إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله ، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئا ، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن ، وأكل قليل الطعام والسمن ، غير مضر به ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة . وقالت طائفة ، منهم ربيعة ويحيى بن سعيد : هذا تقسيم لحال اليتيم ، لا لحال الوصي . والمعنى : من كان منهم غنيا فليعف بماله ، ومن كان منهم فقيرا فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد . ويكون من خطاب العين ، ويراد به الغير . خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف ، والمراد الأولياء . لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب ، فكأنه قال للأولياء والأوصياء : إن كان اليتيم غنيا فأنفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته ، وإن كان فقيرا فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفا .

فهذه أقوال ، ملخصها : هل تقسيم في الولي أو الصبي ؟ قولان : فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه ، أو مال الصبي ؟ قولان . وإذا كان متوجها إلى مال الصبي ، هل ذلك منسوخ أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن منسوخا ، فهل يكون تفصيلا بالنسبة إلى الأكل أو المأكول ؟ قولان . فإذا كان بالنسبة إلى الأكل ، فهل يختص بولي الأب ، أو بالمسافر ، أو بالمضطر ، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه ؟ أقوال . وإذا كان بالنسبة للمأكول ، فهل يختص بالتافه أم يتعدى إلى غيره ؟ قولان . وإذا تعدى إلى غيره ، فهل يكون أجرة أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن أجرة فأخذ ، فهل يترتب دينا في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا ؟ قولان . ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف . ولفظة فليستعفف أبلغ من فليعف ؛ لأن فيه طلب زيادة العفة .

( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) أمر تعالى [ ص: 174 ] بالإشهاد لحسم مادة النزاع ، وسوء الظن بهم ، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم ، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه ، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل . وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه . وعند مالك والشافعي : لا يصدق إلا بالبينة . فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة ، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة . وظاهر الأمر أنه واجب . وقال قوم : هو ندب .

وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم ، وهي المأمور بدفعها في قوله : ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) وقال عمرو بن جبير : هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر . وقيل : فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم ، المعنى : أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم . وقيل : المعنى إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا ، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ، فإن مالا قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه .

( وكفى بالله حسيبا ) أي كافيا في الشهادة عليكم . ومعناه : محسبا من أحسبني كذا ، أي كفاني ، قاله الأعمش والطبري . فيكون فعيلا بمعنى مفعل ، أو محاسبا ، أو حاسبا لأعمالكم يجازيكم بها ، فعليكم بالصدق ، وإياكم والكذب . فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق .

وحسيب فعيل بمعنى مفاعل ، كجليس وخليط ، أو بمعنى فاعل ، حول للمبالغة في الحسبان . وقال ابن عباس والسدي ومقاتل : معنى حسيبا شهيدا . وفي كفى خلاف : أهي اسم فعل ، أم فعل ؟ والصحيح أنها فعل ، وفاعله اسم الله ، والباء زائدة . وقيل : الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي الاكتفاء بالله ، والباء ليست بزائدة ، فيكون ( بالله ) في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل . وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين ، حيث يجيزون إعمال ضمير المصدر كإعمال ظاهره . وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز ، أعني : حذف الفاعل وحذف المصدر . وانتصب ( حسيبا ) على التمييز لصلاحية دخول ( من ) عليه . وقيل : على الحال . و ( كفى ) هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف ، التقدير : وكفاكم الله حسيبا . وتأتي بغير هذا المعنى ، فتعديه إلى اثنين كقوله : ( فسيكفيكهم الله ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية