صفحة جزء
( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) قيل : سبب نزولها هو خبر أم كجة وقد تقدم ، قاله عكرمة والسدي وابن زيد . قال المروزي : كان اليونان يعطون جميع المال للبنات ؛ لأن الرجل لا يعجز عن الكسب ، والمرأة تعجز . وكانت العرب لا يعطون البنات ، فرد الله على الفريقين . والمعني بالرجال الذكور ، وبالنساء الإناث كقوله : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) .

وأبهم في قوله : ( نصيب ) ، و ( مما ترك ) في موضع الصفة ل ( نصيب ) . وقيل : يتعلق بلفظ ( نصيب ) فهو من تمامه . والوالدان : يعني والدي الرجال والنساء ، وهما أبواهم ، وسمي الأب والدا ؛ لأن الولد منه ، ومن الوالدة . وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله : ( لا تضار والدة بولدها ) وجمع بالألف والتاء قياسا كقوله : ( والوالدات ) قال ابن عطية : كما قال الشاعر :

[ ص: 175 ]

بحيث يعتش الغراب البائض

لأن البيض من الأنثى والذكر . انتهى . ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر ؛ لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى ، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء . فهو كالرعوب ينطلق على الذكر والأنثى ، ولا يرجح كونه ذكرا وصفه بالبائض ، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكرا حملا على اللفظ ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملا على لفظ التأنيث في قوله : وعنترة الفلحاء . وفي قوله :

أبوك حليفة ولدته أخرى

والأقربون : هم المتوارثون من ذوي القرابات . وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب ، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها . وقوله : مما قل منه ، هو بدل من قوله : مما ترك الأخير ، أعيد معه حرف الجر ، والضمير في ( منه ) عائد على ( ما ) من قوله : مما ترك الأخير . واكتفى بذكره في هذه الجملة ، وهو مراد في الجملة الأولى ، ولم يضطر إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد ، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله : مما ترك العموم في المتروك . وهذا البدل فيه ذكر نوعي المتروك من القلة أو الكثرة .

وقال أبو البقاء : ( مما قل ) يجوز أن يكون حالا من الضمير المحذوف في ( ترك ) ، أي : مما تركه مستقرا مما قل .

ومعنى نصيبا مفروضا : أي حظا مقطوعا به لا بد لهم من أن يحوزوه . وقال الزجاج ومكي : ( نصيبا ) منصوب على الحال ، المعنى : لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض . وقال الفراء : نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر ، ولذلك وحده كقولك له : علي كذا حقا لازما ، ونحوه : ( فريضة من الله ) ولو كان اسما صحيحا لم ينصب ، لا تقول : لك علي حق درهما . انتهى . وقال الزمخشري قريبا من هذا القول ، قال : ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله : فريضة من الله ، كأنه قسمة مفروضة . وقال ابن عطية نحوا من كلام الزجاج ، قال : إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال ، تقديره : فرضا . ولذلك جاز نصبه كما تقول له : علي كذا وكذا حقا واجبا ، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في اسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكن حقه الرفع ، انتهى كلامه . وهو مركب من كلام الزجاج والفراء ، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له . وقال الزمخشري : و ( نصيبا مفروضا ) نصب على الاختصاص ، بمعنى : أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا ، انتهى . فإن عنى بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة ، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة . وقيل : انتصب نصب المصدر الصريح ، لأنه مصدر ، أي : نصيبه نصيبا . وقيل : حال من النكرة ، لأنها قد وصفت . وقيل : بفعل محذوف ، تقديره : جعلته ، أو أوجبت لهم نصيبا . وقيل : حال من الفاعل في ( قل أو كثر ) .

واستدل بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف . واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض ، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام . فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : تقسم . وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور : لا تقسم . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين . واستدل بها أيضا على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت ، فإذا أخذت النصف أخذ الباقي . واختلف في ابني عم ، أحدهما أخ لأم ، فقال علي وزيد : للأخ من الأم السدس ، وما بقي بينهما نصفان ، وهو قول فقهاء الأمصار . وقال عمر والأعمش وشريح والحسن : المال للأخ من الأم .

( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) قيل : نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت في وصية وجهات يختارونها ، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث ، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية ، قاله ابن عباس وابن [ ص: 176 ] المسيب وابن زيد وأبو جعفر . وقيل : نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضا محجوب ، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله . روي عن ابن عباس وابن المسيب : أنها منسوخة ، وبه قال عكرمة والضحاك ، قالوا : كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف ، ثم نسخ ذلك بآية الميراث ، وأعطى كل ذي حظ حظه ، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون . وقيل : هي محكمة ، أمر الله من استحق إرثا ، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث ، أن لا يحرموا إن كان المال كثيرا ، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلا ، وأمر به أبو موسى الأشعري . وقال الحسن والنخعي : كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة ، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولا معروفا : بورك فيكم . وفعله الأعمش بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وتلا هذه الآية . وإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف ، هل يفعل ذلك الولي أو لا ؟ قولان . والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموصين ، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم ، قال تعالى : ( تلك إذا قسمة ضيزى ) .

وقيل : المراد بالقسمة المقسوم . وقيل : القسمة الاسم من الاقتسام لا من القسم ، كالخيرة من الاختيار . ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة ، وروى ذلك الكسائي . وقسمتك ما أخذته من الأقسام ، والجمع قسم . وقال الخليل : القسم الحظ والنصيب من الجزء ، ويقال : قاسمت فلانا المال وتقاسمناه واقتسمناه ، والقسم الذي يقاسمك .

وظاهر قوله فارزقوهم الوجوب . وبه قال جماعة ، منهم : مجاهد ، و عطاء ، والزهري . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن : هو ندب . وفي قوله : فارزقوهم إضافة الرزق إلى غير الله تعالى ، كما قال : ( والله خير الرازقين ) وقيل : كان ذلك في الورثة واجبا فنسخته آية الميراث ، والضمير في ( منه ) عائد على المال المقسوم ، ودل عليه القسمة ، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال . وقيل : يعود إلى ( ما ) من قوله : مما ترك الوالدان والأقربون . ومن قال : القسمة المقسوم - أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير ، إذ المراد المقسوم . وقدم اليتامى على المساكين لأن ضعفهم أكثر ، وحاجتهم أشد ، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر . والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم ، ورأى عبيدة وابن سيرين : أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلا ذلك ، وذبحا شاة من التركة ، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها ، وقال عبيدة : لولا هذه لكانت من مالي . وقوله : ( منه ) يدل على التبعيض ، ولا تقدير فيه بالإجماع ، وهذا مما يدل على الندب . إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق ، كما بين في سائر الحقوق . وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبارا ، وإن كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف .

والضمير في قوله : وقولوا لهم عائد على ما عاد عليه الضمير في فارزقوهم ، وهم : أولو القربى واليتامى والمساكين . وقال ابن جرير : الآية محكمة في الوصية ، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصى لهم ، وفي ( لهم ) عائد على اليتامى والمساكين . أمر أن يقال لهم قول معروف . وقيل أيضا بتفريق الضمير ، ويكون المراد من أولي القربى الذين يرثون ، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون . فقوله : فارزقوهم راجع إلى أولي القربى . وقوله : ( لهم ) راجع إلى اليتامى والمساكين . وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه .

والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير ، أن يقول لهم : هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار ، وليس لكم فيه حق . وقيل : الدعاء لهم بالرزق والغنى . وقيل : هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به ، وروي عن ابن جبير . وقيل : العدة الحسنة بأن يقال : هؤلاء أيتام صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم ، قاله عطاء بن يسار ، عن ابن جبير . وقيل : المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره . [ ص: 177 ] وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف . وقيل : إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف .

التالي السابق


الخدمات العلمية