صفحة جزء
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء ، قاله ابن زيد . وقيل : في حنظلة بن الشمردل ، ولي يتيما فأكل ماله . وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله ، قاله مقاتل . وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم ، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصيا ، وانتصاب ( ظلما ) على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مفعول من أجله ، وخبر ( إن ) هي الجملة من قوله : إنما يأكلون . وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بـ ( إن ) خبرا لـ ( إن ) ، وفي ذلك خلاف . وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم إن موصولا ، فطال الكلام بذكر صلته . وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم ، يقال : أكل في بطنه ، وفي بعض بطنه . كما قال :

[ ص: 179 ]

كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص



والظاهر : تعلق ( في بطونهم ) بـ ( يأكلون ) ، وقاله الحوفي . وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله نارا . ونبه بقوله : في بطونهم على نقصهم ، ووصفهم بالشره في الأكل ، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن . وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر :


تراه خميص البطن والزاد حاضر

وقول الشنفرى :


وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن     بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل



وظاهر قوله : نارا أنهم يأكلون نارا حقيقة . وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) وبأكلهم النار حقيقة قالت طائفة . وقيل : هو مجاز ، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب بها ، عبر عن ذلك بالأكل في البطن ، ونبه على الحامل على أخذ المال ، وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها ، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان . ولذلك قال : ( ما ملأ الإنسان وعاء شرا من بطنه ) .

وقرأ الجمهور : وسيصلون مبنيا للفاعل من الثلاثي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر : بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول من الثلاثي . وابن أبي عبلة : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة مبنيا للمفعول . والصلى من : التسخن بقرب النار ، والإحراق : إتلاف الشيء بالنار . وعبر بالصلى بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية . وجاء ( يأكلون ) بالمضارع دون سين الاستقبال ، و ( سيصلون ) بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه . وإن كان مجازا فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سببا إلى العذاب بها . ولما كان لفظ نار مطلقا في قوله : إنما يأكلون في بطونهم نارا ، قيد في قوله سعيرا ، إذ هو الجمر المتقد .

وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة : الطباق في : ( واحدة ) و ( زوجها ) ، وفي ( غنيا ) و ( فقيرا ) ، وفي : ( قل أو كثر ) . والتكرار في : ( اتقوا ) ، وفي : ( خلق ) ، وفي : ( خفتم ) ، و ( أن لا تقسطوا ) ، و ( أن لا تعدلوا ) من جهة المعنى ، وفي ( اليتامى ) ، وفي ( النساء ) ، وفي ( فادفعوا إليهم أموالهم ) ، ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) ، وفي ( نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) ، وفي قوله : ( وليخش ) ، و ( خافوا ) ، من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين ، وإطلاق اسم المسبب على السبب في : ( ولا تأكلوا ) وشبهه ؛ لأن الأخذ سبب للأكل . وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في : ( وآتوا اليتامى ) ، سماهم يتامى بعد البلوغ . والتأكيد بالإتباع في : ( هنيئا مريئا ) ، وتسمية الشيء باسم ما يئول إليه في : ( نصيب مما ترك ) ، وفي ( نارا ) على قول من زعم أنها حقيقة . والتجنيس المماثل في : ( فادفعوا ) ، ( فإذا دفعتم ) ، والمغاير في : ( وقولوا لهم قولا ) . والزيادة للزيادة في المعنى في : ( فليستعفف ) . وإطلاق كل على بعض في : ( الأقربون ) ، إذ المراد أرباب الفرائض . وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في : ( خلفهم ) ، أي من بعد وفاتهم . والاختصاص في : ( بطونهم ) ، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات . والتعريض في : ( في بطونهم ) ، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم ، والعرب تذم بذلك قال :


دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله : ( في بطونهم ) . رفع المجاز العارض في قوله : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) وهذا على قول من حمله على الحقيقة ، ومن حمله على المجاز ، فيكون عنده من [ ص: 180 ] ترشيح المجاز ، ونظير كونه رافعا للمجاز قوله : يطير بجناحيه ، وقوله : يكتبون الكتاب بأيديهم ، والحذف في عدة مواضع : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) . لما أبهم في قوله : ( نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) في المقدار والأقربين - بين في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين ، وبدأ بالأولاد وإرثهم من والديهم ، كما بدأ في قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان بهم . وفي قوله : يوصيكم الله في أولادكم - إجمال أيضا بينه بعد . وبدأ بقوله : للذكر ، وتبين ما له دلالة على فضله . وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ؛ ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن ، إذ هن يدلين بما يدلون به من الولدية .

وقد اختلف القول في سبب النزول ، ومضمن أكثر تلك الأقاويل : أنهم كانوا لا يورثون البنات كما تقدم ، فنزلت تبيينا لذلك ولغيره . وقيل : نزلت في جابر إذ مرض ، فعاده الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : كيف أصنع في مالي ؟ وقيل : كان الإرث للولد والوصية للوالدين ، فنسخ بهذه الآيات . قيل : معنى يوصيكم يأمركم . كقوله : ( ذلكم وصاكم به ) وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب حصوله سرعة ، وقيل : يعهد إليكم كقوله : ( ما وصى به نوحا ) وقيل : يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقا بقوله ( للرجال ) ( وأولو الأرحام ) وقيل : يفرض لكم . وهذه أقوال متقاربة .

والخطاب في : ( يوصيكم ) للمؤمنين ، وفي ( أولادكم ) : هو على حذف مضاف . أي : في أولاد موتاكم ، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك ، وإن كان المعني بـ ( يوصيكم ) ( يبين ) جاز أن يخاطب الحي ، ولا يحتاج إلى حذف مضاف . والأولاد يشمل الذكور والإناث ، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث ، فأما الرق فمانع بالإجماع ، وأما الكفر فكذلك ، إلا ما ذهب إليه معاذ من أن المسلم يرث الكافر . وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث ، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه ، لا يرث من الدية ، هذا مذهب ابن المسيب ، وعطاء ، و مجاهد ، و الزهري ، و الأوزاعي ، و مالك ، و إسحاق ، وأبي ثور ، وابن المنذر . وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد : لا يرث من المال ، ولا من الدية شيئا . واستثنى النخعي من عموم ( أولادكم ) الأسير ، فقال : لا يرث .

وقال الجمهور : إذا علمت حياته يرث ، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود . واستثني من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الجنين فإن خرج ميتا لم يرث ، وإن خرج حيا ، فقال القاسم ، وابن سيرين ، والسدي ، و الشعبي ، والزهري ، و مالك ، والشافعي : يستهل صارخا ، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس . وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي : إذا عرفت حياته بشيء من هذه ، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث . وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث ، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم . وذلك مذكور في كتب الفقه . وأما الخنثى فداخل في عموم ( أولادكم ) ، ولا خلاف في توريثه ، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى ، وذلك مذكور في كتب الفقه . وأما المفقود فقال أبو حنيفة : لا يرث في حال فقده من أحد شيئا .

وقال الشافعي : يوقف نصيبه حتى يتحقق موته ، وهو ظاهر قول مالك . وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعا ، والولد حقيقة في ولد الصلب ، ويستعمل في ولد الابن ، والظاهر أنه مجاز . إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطؤ لشارك ولد الصلب مطلقا ، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب ، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم .

وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة ، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أن الجد ليس له حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق . ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد ، وعند مالك يدخل ، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم [ ص: 181 ] يكن لفلان ولد صلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية