صفحة جزء
( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر ، أهو من حيث الوضع ، أو الاستعمال ؟ أم لا دلالة لها عليه ؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها ، فأغنى ذلك عن إعادته . وقوله : إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر ، والتقدير : إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله ، فتكون ( على ) باقية على بابها . وقال الزمخشري : يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء ، انتهى . وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة ، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل ، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعا ، وأما قبول التوبة فلا يجب على الله عقلا ، وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة ، وأفادت القطع بذلك . وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره : إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة ، والتوبة فرض بإجماع الأمة ، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنب ومن ذنب ، وإن أقام على ذنب غيره ، خلافا للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة ، إذ ذهبوا إلى أنه لا يكون تائبا من أقام على ذنب . وقيل : ( على ) بمعنى عند . وقال الحسن : بمعنى من ، والسوء يعم الكفر ، والمعاصي غيره ، سمي بذلك لأنه تسوء عاقبته .

وموضع بجهالة حال ، أي : جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل ، إذ ارتكاب [ ص: 198 ] السوء لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل ، والعقل يدعو إلى الطاعة ، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة ، فكل عاص جاهل بهذا التفسير . ولا تكون الجهالة هنا التعمد ، كما ذهب إليه الضحاك . وروي عن مجاهد ؛ لإجماع المسلمين على أن من تعمد الذنب وتاب ، تاب الله عليه . وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية هي بجهالة عمدا كانت أو جهلا . وقال أبو الكلبي : ( بجهالة ) أي : لا يجهل كونها معصية ، ولكن لا يعلم كنه العقوبة . وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ، يعني ما اختص بها وخرج عن طاعة الله . وقال الزجاج : جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية ، والحظ العاجل على الآجل . وقيل : الجهالة الإصرار على المعصية ، ولذلك عقبه بقوله : ثم يتوبون من قريب . وقيل : معناه فعله غير مصر عليه ، فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء . وقال الترمذي : جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد ، فيكون المراد منه العفو عن الخطأ ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه ، أي : أنه حرام ، أو في الحرمة أي قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله ، لا قصد الاستخفاف به والتهاون به . والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة ، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب من بعد ويصير صالحا ، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه . وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه .

ومعنى من قريب أي : من زمان قريب . والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية ، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر ، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الروح . فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر ، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت . وقيل : قبل أن يحيط السوء بحسناته ، أي : قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته ، فيبقى كأنه بلا حسنات . وقيل : قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه ، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط . وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق . وقال ابن عباس والسدي : قبل المرض والموت . فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة ، وذكر من قبله آخر وقتها . وقال ابن عباس أيضا : قبل أن ينزل به سلطان الموت ، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ، وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده ، فقال : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر . قيل : وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آت ، وكل ما هو آت قريب . وتنبيها على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة ، ولأن الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به ، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب .

وارتفاع التوبة على الابتداء ، والخبر هو على الله ، و ( للذين ) متعلق بما يتعلق به ( على الله ) ، والتقدير : إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين . وقال أبو البقاء : في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالا من الضمير في قوله : على الله ، والعامل فيها الظرف والاستقرار ، أي ثابتة للذين ، انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التكلف . وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر ( للذين ) ، ويتعلق على الله بمحذوف ، ويكون حالا من محذوف أيضا ، والتقدير : إنما التوبة إذا كانت ، أو إذ كانت على الله . فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما ( للذين ) ، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه . و ( كان ) تامة ، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان . قال : ولا يجوز أن يكون على الله حالا يعمل فيها ( للذين ) ، لأنه عامل معنوي ، والحال لا يتقدم على المعنوي . ونظير هذه المسألة قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطبا انتهى . وهو وجه متكلف في الإعراب ، غير متضح في المعنى ، و بجهالة في موضع الحال أي : مصحوبين بجهالة . ويجوز عندي أن تكون باء السبب ، أي : الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة [ ص: 199 ] إتيان المعصية ما عملوها كقوله ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) لأن العقل حينئذ يكون مغلوبا أو مسلوبا . و ( من ) في قوله : من قريب ، تتعلق بـ يتوبون ، وفيها وجهان : أحدهما : أنها للتبعيض ، أي بعض زمان قريب ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب . والثاني : أن تكون لابتداء الغاية ، أي يبتدئ التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار . ومفهوم ابتداء الغاية : أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خص بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بـ ( على ) ، في قوله : على الله . وقوله : يتوب الله عليهم ، ويكون من جملة الموعودين بكلمة ( عسى ) في قوله : عسى الله أن يتوب عليهم .

ودخول ( من ) الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون ، وحذف الموصوف هنا وهو زمان ، وقامت الصفة التي هي ( قريب ) مقامه ، ليس مقيسا . لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس ، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء ، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح ، والأبرق ، ولا مختصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بمهندس ، ولا تقدم ذكر موصوفها ، نحو : اسقني ماء ولو باردا ، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسما وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس .

فأولئك يتوب الله عليهم ، لما ذكر تعالى أن قبول التوبة على الله لمن ذكر ، ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم ، ولذلك اختلف متعلقا التوبة باختلاف المجرور . لأن الأول على الله ، والثاني عليهم ، ففسر كل بما يناسبه . ولما ضمن ( يتوب ) معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى ، كأنه قال : يعطف عليهم . وفي ( على ) الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول . قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله : إنما التوبة على الله لهم ؟ قلت : قوله : إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه ، كما يجب على العبد بعض الطاعات ، وقوله : فأولئك يتوب الله عليهم عدة بأنه يفي بما وجب عليه ، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة ، كما يعد العبد الوفاء بالواجب . انتهى كلامه . وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم : إن الله يجب عليه ، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك . وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه : إن قوله : إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق ، و يتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك . أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد ، و ( يتوب عليهم ) بمعنى : يقبل توبتهم . وكان الله عليما حكيما أي : عليما بمن يطيع ويعصي ، ( حكيما ) أي : يضع الأشياء مواضعها ، فيقبل توبة من أناب إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية