صفحة جزء
( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ) نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ، ولا للذي وافى على الكفر . فالأول كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق ، وكالذين قال تعالى فيهم : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) وحضور الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة ، فكذلك هذا الذي حضره الموت . قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم ، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة . فكما أن الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت ، لمجاوزة كل واحد منهما أوان التكليف والاختيار ، انتهى كلامه . وهو على طريق الاعتزال . زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظريا ، فإذا صار العلم بالله ضروريا سقط التكليف . وأهل الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة ، فلذلك سقط التكليف . وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار . والذي قاله المحققون : أن القرب من [ ص: 200 ] الموت لا يمنع من قبول التوبة ، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله ، ثم أحياهم وكلفهم ، فدل على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف ، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما ، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف ، فكذلك تلك . ولأنه عند القرب يصير مضطرا فيكون ذلك سببا للقبول ، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء . وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر ، وله أن يجعل المقبول مردودا ، والمردود مقبولا ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة ، وفي دعواهم أن مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار .

وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين ، ثم نسخها : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فحتم أن لا يغفر للكافرين ، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته . وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ . وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي ، فيجوز نسخ ذلك الحكم ، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ ، لأن هذه الآية لم تتضمن أن من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له ، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : الذين يعملون السيئات ؛ لأن أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين ، وللتأكيد بـ ( لا ) المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد ، تقول : هذا ليس لزيد وعمرو ، بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما . وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله : فإن قلت : من المراد بالذين يعملون السيئات ، أهم الفساق من أهل القبلة ، أم الكفار ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد به الكفار ؛ لظاهر قوله : وهم كفار ، وأن يراد الفساق ؛ لأن [ ص: 201 ] الكلام إنما وقع في الزانيين ، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا ، ويكون قوله : وهم كفار واردا على سبيل التغليظ كقوله : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) وقوله : ( فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ) ، ( من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ) لأن من كان مصدقا ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة - حاله قريبة من حال الكافر ، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت ، انتهى كلامه . وهو في غاية الاضطراب ، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين : أحدهما : الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت ، والثاني : الذين ماتوا على الكفر . وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين ، إما الكفار فقط ، وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر ، وعلل هذا الوجه بقوله : لظاهر قوله : وهم كفار ، فجعل هذه الحال دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار ، وإما الفساق من المؤمنين فيكون قوله : وهم كفار لا يراد به الكفر حقيقة ، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة ، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده : فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية أولا ، وكل ذلك انتصار لمذهبه حتى يرتب العذاب : إما للكافر ، وإما للفاسق ، فخرج بذلك عن قوانين النحو والحمل على الظاهر ؛ لأن قوله : وهم كفار ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله : ولا الذين يموتون ، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة . وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت ، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت ، وظاهر العطف التغاير . و الزمخشري كما قيل في المثل : حبك الشيء يعمي ويصم . وجاء ( يعملون ) بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعارا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت . وظاهر قوله : قال إني تبت الآن ، هو توبتهم عند معاينة الموت كما تقدم تفسيره ، فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع . وقيل : قوله تبت الآن توبة شريطية فلم تقبل ، لأنه لم يقطع بها . وقوله : وليست التوبة ظاهره النفي لوجودها ، والمعنى على نفي القبول أي أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة . وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار وقوع الموت حقيقة . فالمعنى : أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم ، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا ، لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر . قيل : ويحتمل أن يراد بقوله يموتون : يقربون من الموت كما في قوله : ( حضر أحدهم الموت ) أي علاماته . فكما أن التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت .

( أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين ، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما ، وإن كان عذاب أحدهما منقطعا والآخر خالدا . ويكون ذلك وعيدا للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرك بينه وبين الذي وافى على الكفر ، ويحتمل أن يكون ( أولئك ) إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور . واسم الإشارة يجري مجرى الضمير ، فيشار به إلى أقرب مذكور ، كما يعود الضمير على أقرب مذكور ، ويكون إعداد العذاب مرتبا على الموافاة على الكفر ، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى . وظاهر الإعداد أن النار مخلوقة ، وسبق الكلام على ذلك .

وقال الزمخشري : أولئك أعتدنا لهم في الوعيد ، نظير قوله : ( فأولئك يتوب الله عليهم ) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة ، انتهى . وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا ، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأن من نفى عنهم التوبة صنفان ، ثم ذكر هذا عقيبه ، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين كائن لا محالة ، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور قبل هذه الآية واقع لا محالة ، فدل على أن العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار ، وهذا هو مذهب المعتزلة . ومع احتمال أن يكون [ ص: 202 ] أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر ، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق ، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعا به للفاسق . وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له ، فلا يلزم وقوع ما دل عليه ، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو . وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق . وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها .

وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري : إلى أن قوله : ( للذين يعملون السيئات ) في حق المنافقين ، واختاره المروزي . قال : فرق بالعطف ، ودل على أن المراد بالأول المنافقون . كما فرق بينهم في قوله : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ) لأن المنافق كان مخالفا للكافر بظاهره في الدنيا . والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة ؛ لأن المنافقين مندرجون في قوله : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم . وقيل : إنما التوبة على الله في الصغائر ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر ، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر . ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) قال ابن عباس ، و عكرمة ، والحسن ، وأبو مجلز : كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها ، إن شاءوا تزوجها أحدهم ، أو زوجوها غيرهم ، أو منعوها . وكان ابنه من غيرها يتزوجها ، وكان ذلك في الأنصار لازما ، وفي قريش مباحا . وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه ، إذا لم يكن ولدها . وقال السدي : إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها ، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فأذهب الله ذلك بهذه الآية .

والخطاب على هذا للأولياء ، نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال . والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة ، لا جوازها في حال الطوع استدلالا بالآية ، فخرج هذا الكره مخرج الغالب ، لأن غالب أحوالهن أن يكن مجبورات على ذلك ، إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها . وقيل : هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن ، أو في حجره يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها ، فيتزوجها كرها لأجله . أو تحته عجوز ذات مال ، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها ، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها ، أو تموت فيرث مالها . والخطاب للأزواج ، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن ، لا هن . وانتصب كرها على أنه مصدر في موضع الحال من النساء ، فيقدر باسم فاعل أي : كارهات ، أو باسم مفعول أي : مكرهات . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بفتح الكاف ، حيث وقع ، و حمزة والكسائي بضمها ، و عاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة ، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين ، وهما لغتان : كالصمت والصمت ، قاله : الكسائي والأخفش وأبو علي . وقال الفراء : الفتح بمعنى الإكراه ، والضم من فعلك تفعله كارها له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب ، وقاله : أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضا . وتقدم الكلام عليه في قوله : ( وهو كره لكم ) في البقرة . وقرئ : لا تحل لكم بالتاء على تقدير : لا تحل لكم الوراثة ، كقراءة من قرأ : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) أي إلا مقالتهم ، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إما لكونهن هن أنفسهن الموروثات ، وإما على حذف مضاف ، أي : أموال النساء . ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي لا تحبسوهن [ ص: 203 ] ولا تضيقوا عليهن . وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج ؛ لقوله : ببعض ما آتيتموهن ؛ لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق . وكان يكره صحبة زوجته ، ولها عليه مهر ، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله : ابن عباس والسدي والضحاك والسدي . أو ينكح الشريفة فلا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها قاله : ابن زيد . أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثا فنهوا عن ذلك . وقيل : هو خطاب للأولياء كما بين في قوله : (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) فلفوا في هذا الخطاب ، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه ، فخوطب الأولياء بقوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، وخوطب الأزواج بقوله : ولا تعضلوهن ، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه . وتقدم تفسير العضل في البقرة في قوله : ( فلا تعضلوهن ) ، والباء في بـ بعض ما آتيتموهن للتعدية ، أي : لتذهبوا بعض ما آتيتموهن . ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن . ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) هذا استثناء متصل ، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم . وهو استثناء من ظرف زمان عام ، أو من علة . كأنه قيل : ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين . أو لا تعضلوهن لعلة من العلل ، إلا لأن يأتين . والظاهر أن الخطاب بقوله : ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما تبين .

والفاحشة هنا الزنا ، قاله : أبو قلابة والحسن . قال الحسن : إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة ، وردت إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن . وقال عطاء : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها . وقال السدي : لا يحل له أن يحبسها ضرارا حتى تفتدي منه ، يعني : وإن زنت . وقال ابن عباس و عائشة والضحاك وغيرهم : الفاحشة هنا : النشوز ، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ، وهذا مذهب مالك وقال قوم : الفاحشة : البذء باللسان ، وسوء العشرة قولا وفعلا ، وهذا في معنى النشوز . والمعنى : إلا أن يكون سوء العشرة من جهتين ، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع . ويدل على هذا المعنى قراءة أبي : إلا أن يفحشن عليكم ، وقراءة ابن مسعود : إلا أن يفحشن وعاشروهن ، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام ، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة . والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح ، لا على أن ذلك قرآن . ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركونا لقوله : ( لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) وقال مالك : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه . وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ؛ ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله ، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة . وقرأ ابن كثير وأبو [ ص: 204 ] بكر : مبينة هنا ، وفي الأحزاب ، والطلاق بفتح الياء ، أي يبينها من يدعيها ويوضحها . وقرأ الباقون بالكسر ، أي : بينة في نفسها ظاهرة . وهي اسم فاعل من بين ، وهو فعل لازم بمعنى بان أي ظهر ، وظاهر قوله : ولا تعضلوهن ، أن لا نهي ، فالفعل مجزوم بها ، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية . فإن قلنا : شرط عطف الجمل المناسبة ، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال : لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن . وإن قلنا : لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه ، فظاهر . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصبا عطفا على ترثوا ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلا على فعل . وقرأ ابن مسعود : ولا أن تعضلوهن ، فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحل بالنص . وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة ، واحتمال النصب أقوى ، انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه ، وهو لا يجوز ؛ وذلك أنك إذا عطفت فعلا منفيا بلا على مثبت وكانا منصوبين ، فإن الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف ، لا بعد ( لا ) . فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، فالتقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ؛ لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت ، والثاني على سبيل النفي . فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار . فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفيا ، فكذلك ولو قدرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح ، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر . وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح . وإذا قدرت أن بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج ، وقولك : لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج ، ففي الأول نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أراد خروجه . وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه ، ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج . وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية . ( وعاشروهن بالمعروف ) هذا أمر بحسن المعاشرة ، والظاهر أنه أمر للأزواج ، لأن التلبس بالمعاشرة غالبا إنما هو للأزواج ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء ، وبالمعروف [ ص: 205 ] هو النصفة في المبيت والنفقة ، والإجمال في القول . ويقال : المرأة تسمن من أذنها . ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) أدب تعالى عباده بهذا . والمعنى : أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة ، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه ، كما قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة ، وما أحبته يكون بضد ذلك . ولما كانت عسى فعلا جامدا دخلت عليه فاء الجواب ، وعسى هنا تامة ، فلا تحتاج إلى اسم وخبر . والضمير في فيه عائد على شيء أي : ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه . وقيل : عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل . وقيل : عائد على الصبر . وفسر ابن عباس والسدي الخير بالولد الصالح ، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر . وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئا ، حيث علق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل ، ولم يعلق الكراهة بضمير ( هن ) ، فكان يكون : فعسى أن تكرهوهن . وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن ، وإن كره الإنسان منهن شيئا من أخلاقهن . ولذلك جاء بعده : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج . وقيل : معنى الآية : ويجعل الله في فراقكم لهن خيرا كثيرا لكم ولهن ، كقوله : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) قاله الأصم : وهذا القول بعيد من سياق الآية ، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها . وقل أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر ، ويقال : ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر . وفي صحيح مسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) . وأنشدوا في هذا المعنى :


ومن لا يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب     ومن يتتبع جاهدا كل عثرة
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها ، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة ، وأقام الإرادة مقام الفعل . فكأنه قال : وإن استبدلتم . أو حذف معطوفا أي : واستبدلتم . وظاهر قوله : وآتيتم أن الواو للحال ، أي : وقد آتيتم . وقيل : هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر . والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء ، والمعنى : أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . واستدل بقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا على جواز المغالاة في الصدقات ، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال : ( ألا لا تغالوا في مهور نسائكم ) . وقال قوم : لا تدل على المغالاة ، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه قيل : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا شبيه بقوله : ( من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) ومعلوم أن مسجدا لا يكون كمفحص قطاة ، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر . وقد قال لمن أمهر مائتين وجاء يستعين في مهره وغضب : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة ) وقال محمد بن عمر الرازي : لا دلالة فيها على المغالاة ؛ لأن قوله : وآتيتم لا يدل على [ ص: 206 ] جواز إيتاء القنطار ، ولا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ) انتهى . ولما كان قوله : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، خطابا لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجا مكان أزواج ، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين ، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة ، ولإرادة معنى الجمع - عاد الضمير في قوله : إحداهن جمعا ، والتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها ، إلا المستبدلة ، إذ تلك هي التي أعطاها المال ، لا التي أراد استحداثها بدليل قوله : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) وقال : وآتيتم إحداهن قنطارا ليدل على أن قوله : ( وآتيتم ) المراد منه : وأتى كل واحد منكم إحداهن ، أي إحدى الأزواج قنطارا ، ولم يقل : وآتيتموهن قنطارا ، لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين آتوا الأزواج قنطارا . والمراد : آتى كل واحد زوجته قنطارا . فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في : آتيتم ، المراد منه كل واحد واحد ، كما دل لفظ : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج ، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة : وإن أردتم . وأريد بقوله : وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن ، وهي مفردة على ذلك . وهذا من لطيف البلاغة ، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح . وتقدم الكلام في قنطار في أول آل عمران ، والضمير في منه عائد على قنطار . وقرأ ابن محيصن : بوصل ألف إحداهن ، كما قرئ : إنها لإحدى الكبر بوصل الألف ، حذفت على جهة التحقيق كما قال :


وتسمع من تحت العجاج لها ازملا

وقال :


إن لم أقاتل فالبسوني برقعا

وظاهر قوله : فلا تأخذوا منه شيئا تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدال مكانها بإرادته . قالوا : وهذا مقيد بقوله : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه ) قالوا : وانعقد عليه الإجماع . ويجرى هذا المجرى المختلعة ؛ لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به . وقال بكر بن عبد الله المزني : لا تأخذ من المختلعة شيئا لقوله : فلا تأخذوا منه شيئا وآية البقرة منسوخة بهذا ، وتقدم الكلام في ذلك في سورة البقرة . وظاهر قوله : وآتيتم إحداهن قنطارا ، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها ، سواء كان مهرا أو غيره .

أفضى بعضكم إلى بعض ؛ لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهرا فقط ، بل المعنى : أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئا مما آتاها ، سواء كان مهرا أو غيره . وقال أبو بكر الرازي : لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما تضمنه الاسم ، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول ، انتهى كلامه . وهو منه تسليم أن المراد بقوله : وكيف تأخذونه ، أي المهر . وبينا أنه لا يلزم ذلك . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة ، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها ؛ لعموم اللفظ ؛ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى . وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة ، انتهى . وليس بظاهر ؛ لأن الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه ، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك ؛ لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلا منه ، فإذا كان معدوما فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر ؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال ، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم ، في حالة الاستبدال وغيرها . ومفهوم الشرط غير مراد ، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها - له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية ، وهي أولى به [ ص: 207 ] من المفارقة . فبين الله أنه لا يأخذ منها شيئا . وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أخذ شيء مما آتاها ، مع سقوط حقه عن بضعها ، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها ، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه . وقرأ أبو السمال وأبو جعفر : شيا بفتح الياء وتنوينها ، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء .

التالي السابق


الخدمات العلمية