صفحة جزء
( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ) لما تقدم تحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه ، كان تحريم أمه أولى بالتحريم . وليس هذا من المجمل ، بل هذا مما حذف منه المضاف لدلالة المعنى عليه ؛ لأنه إذا قيل : حرم عليك الخمر ، إنما يفهم منه شربها . وحرمت عليك الميتة ، أي : أكلها . وهذا من هذا القبيل ، فالمعنى : نكاح أمهاتكم . ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) .

وقال محمد بن عمر الرازي : فيها عندي بحث من وجوه : أحدها : أن بناء الفعل للمفعول لا تصريح فيه بأن المحرم هو الله . وثانيها : أن حرمت لا يدل على التأبيد ، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت . وثالثها : أن عليكم خطاب مشافهة ، فيختص بالحاضرين . ورابعها : أن حرمت ماض ، فلا يتناول الحال والمستقبل . وخامسها : أنه يقتضي أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم . وسادسها : أن حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان حراما لما قيل : حرمت . وثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصا .

وهذه البحوث التي ذكرها لا تختص بهذا الموضع ولا طائل فيها ، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به ، ومعلوم أن المحرم هو الله تعالى . ألا ترى إلى آخر الآية وهو قوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ) وقال بعد : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) على قراءة من بناه للفاعل . ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهم منه إلا التأبيد ، فإن كان له حالة إباحة نص عليها كقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) وأما أنه صيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية ، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه ، فإنها نظير أقسمت لأضربن زيدا لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض . فإن كان الحكم ثابتا قبل ورود الفعل ففائدته تقرير ذلك الحكم الثابت ، وإن لم يكن ثابتا ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده . وأما أن الظاهر أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر ، ولا مفهوم من اللفظ ؛ لأن عليكم أمهاتكم عام يقابله عام ، ومدلول العموم أن تقابل كل واحد بكل واحد واحد . أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا ؛ لأنها ليست دلالة العام . [ ص: 210 ] فإنما المفهوم : حرم على كل واحد واحد منكم كل واحدة واحدة من أم نفسه . والمعنى : حرم على هذا أمه ، وعلى هذا أمه ، والأم المحرمة شرعا هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك ، أو من جهة أمك . ولفظ الأم حقيقة في التي ولدتك نفسها . ودلالة لفظ الأم على الجدة إن كان بالتواطؤ أو بالاشتراك ، وجاز حمله على المشتركين ، كان حقيقة ، وتناولها النص . وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز ، فكذلك ، وإلا فيستفاد تحريم الجدات من الإجماع أو من نص آخر .

وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا ، وذكروا أن سبب هذا التحريم : أن الوطء إذلال وامتهان ، فصينت الأمهات عنه ، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام .

والبنت المحرمة كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور ، وبنت البنت هل تسمى بنتا حقيقة ، أو مجازا ، الكلام فيها كالكلام في الجدة ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس ، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب .

( وأخواتكم ) الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية