صفحة جزء
( والله أعلم بإيمانكم ) لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة ، نبه على أن الإيمان هو وصف باطن ، وأن المطلع عليه هو الله . فالمعنى : أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين ، لأن ذلك إنما هو لله تعالى ، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره . فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح ، وربما كانت خرساء ، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان ، فيكتفى بذلك منها .

والخطاب في ( بإيمانكم ) للمؤمنين ذكورهم وإناثهم ، حرهم ورقهم ، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب ، ولم يفردن بذلك فلم يأت - والله أعلم - بإيمانهن ، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب . والمقصود : عموم الخطاب ، إذ كلهم محكوم عليه بذلك . وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير ، وامرأة تفوق رجلا في ذلك ، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء ، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان ، لأفضل الأحساب والأنساب ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى ) .

( بعضكم من بعض ) هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع ( بعضكم ) على الفاعلية بالفعل المحذوف ، ومعنى هذه الجملة الابتدائية التأنيس أيضا بنكاح [ ص: 222 ] الإماء ، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد ، وقد اشتركوا في الإيمان ، فليس بضائر نكاح الإماء . وفيه توطئة العرب ، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة ، وكانوا يسمونه الهجين ، فلما جاء الشرع أزال ذلك . وما أحسن ما روي عن علي من قوله :


الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

( فانكحوهن بإذن أهلهن ) هذا أمر إباحة ، والمعنى : بولاية ملاكهن . والمراد بالنكاح هنا : العقد ، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر . وسمي ملاك الإماء أهلا لهن ، لأنهم كالأهل ، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام . وقد قال : ( لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد ) . وقال : ( موالي القوم منهم ) .

وقيل : هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك . ومقتضى هذا الخطاب أن الأدب شرط في صحة النكاح ، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح ، ولو أجازه السيد بخلاف العبد . فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب الحسن وعطاء ، وابن المسيب ، و شريح ، و الشعبي ، و مالك ، وأبي حنيفة : أن تزوجه موقوف على إذن السيد ، فإن أجازه جاز ، وإن رده بطل . وقال الأوزاعي ، والشافعي ، و داود : لا يجوز ، أجازه المولى أو لم يجزه .

وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده ، وكان ابن عمر يعده زانيا ويحده ، وهو قول أبي ثور .

وقال عطاء : لا حد عليه ، وليس بزنا ، ولكنه أخطأ السنة . وهو قول أكثر السلف . وظاهر قوله : بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكورا وإناثا ، فيشترط إذن المرأة في تزويج أمتها ، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد ، فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد ، كما يجوز للذكر . وقال الشافعي : لا يجوز ، بل توكل غيرها في التزويج . وقال الزمخشري : بإذن أهلهن ، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن ، ويحتج به لقول أبي حنيفة : إن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن ، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية