صفحة جزء
( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) مناسبة هذه الآية ظاهرة ، لأنه تعالى لما ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر ، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر . والظاهر أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات ، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر . وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم ، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وذهب جماعة من الأصوليين ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وأبو المعالي ، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري : إلى أن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر . وحملوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر ، قالوا : ويؤيده قراءة ( كبير ) على التوحيد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال له رجل : يا رسول الله وإن كان يسيرا ؟ قال : ( وإن كان قضيبا من أراك ) فقد جاء الوعيد على اليسير ، كما جاء على الكثير . وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة .

والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من قوله : ( ما من امرئ مسلم [ ص: 234 ] تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله ) وفي صحيح مسلم : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) .

واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود : هي ثلاث ، القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله . وروي عنه أيضا أنها أربع : فزاد الإشراك بالله . وقال علي : هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع كقول علي ، في كل واحدة منها آية في كتاب الله ، وجعل الآية في التعرب : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) الآية وفي البخاري : ( اتقوا السبع الموبقات ) فذكر هذه إلا التعرب ، فجاء بدله السحر . وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري . وقال ابن عمر : فذكر هذه إلا السحر ، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام . والذي يستسخر بالوالدين من العقوق . وقال ابن مسعود أيضا والنخعي : هي جميع ما نهي عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ، وهي : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال ابن عباس أيضا : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار ، أو عذاب ، أو لعنة ، أو ما أشبه ذلك . وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي ، قال : قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصح لي أن كل ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر ، ووجدناه عليه السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث - يعني الذي في البخاري - فمنها : قول الزور ، وعقوق الوالدين ، والكذب عليه ، وتعريض المرء أبويه للسب بأن يسب آباء الناس ، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر ، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق ، وعلى النياحة في المآتم ، وحلق الشعر فيها ، وخرق الجيوب ، والنميمة ، وترك التحفظ من البول ، وقطيعة الرحم ، وعلى الخمر ، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها ، وعلى إسبال الإزار على سبيل التجوه ، وعلى المنان بما يفعل من الخير ، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، وعلى المانع فضل مائه من الشارب ، وعلى الغلول ، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم ، وعلى المقتطع بيمينه حق امرئ مسلم ، وعلى الإمام الغاش لرعيته ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، وعلى العبد الآبق ، وعلى من غل ، ومن ادعى ما ليس له ، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن ، وعلى بغض الأنصار ، وعلى تارك الصلاة ، وعلى تارك الزكاة ، وعلى بغض علي رضي الله عنه ، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة ، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة ، فصح بهذا قول ابن عباس . انتهى كلامه . يعني قوله : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وروي عن ابن عباس أنه قال : هي إلى سبعمائة أقرب ، لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .

وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، هل التكفير قطعي ؟ أو غالب ظن ؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعي كما دلت عليه الآية والأحاديث ، والأصوليون قالوا : هو على غلبة الظن ، وقالوا : لو كان ذلك قطعيا لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه ، ووصف ( مدخلا ) بقوله : ( كريما ) ، ومعنى كرمه : فضيلته ، ونفى العيوب عنه كما تقول : ثوب كريم ، وفلان كريم المحتد . ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات ، وجعلها كأن لم تكن ، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر .

وقرأ ابن عباس وابن جبير ( إن تجتنبوا كبير ) على الإفراد ، وقد ذكرنا من [ ص: 235 ] احتج به على أنه أريد الكفر . وأما من لم يقل ذلك فهو عنده جنس .

وقرأ المفضل عن عاصم : ( يكفر ويدخلكم ) بالياء على الغيبة .

وقرأ ابن عباس : ( من سيئاتكم ) بزيادة ( من ) .

وقرأ نافع : ( مدخلا ) هنا ، وفي الحج بفتح الميم ، ورويت عن أبي بكر . وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إما على المصدر أي : إدخالا ، والمدخل فيه محذوف ، أي : ويدخلكم الجنة إدخالا كريما . وإما على أنه مكان الدخول ، فيجيء الخلاف الذي في دخل ، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول ؟ أم على سبيل الظرف ؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف . وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون دخولا كريما ، وحذف ( فتدخلون ) لدلالة المطاوع عليه ، ولدلالة مصدره أيضا . ويحتمل أن يراد به المكان ، فينتصب إذ ذاك إما بـ ( يدخلكم ) ، وإما بـ ( دخلتم ) المحذوفة على الخلاف ، أهو مفعول به أو ظرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية