صفحة جزء
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) نزلت هذه الآية في قوم كفار . روي عن ابن عباس ، و مجاهد ، وابن زيد ، و حضرمي : أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد ، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا بالبخل على جهتين : أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد وقالوا للأنصار : لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون ؟ وقيل : نزلت في المنافقين . وقيل : في مشركي مكة .

وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون . وقيل : هي عامة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم . والبخل في كلام العرب : منع السائل شيئا مما في يد المسئول من المال ، وعنده فضل . قال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس . والبخل في الشريعة ، هو منع الواجب . وقال الراغب : لم يرد البخل بالمال ، بل بجميع ما فيه نفع للغير . انتهى . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله ، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان . أحدهما : البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل . والثاني : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته . وذم تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول : وأعتدنا للكافرين ، وأعقب الثاني بقوله : ( ومن يكن الشيطان له قرينا ) .

والبخل أنواع : بخل بالمال ، وبخل بالعلم وبخل بالطعام ، وبخل بالسلام ، وبخل بالكلام ، وبخل على الأقارب دون الأجانب ، وبخل بالجاه ، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلا وشرعا وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل ، منها : ( خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ، وظاهر قوله : بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون ، كما تقول : أمرت زيدا بالصبر ، فالبخل مأمور به . وقيل : متعلق الأمر محذوف ، والباء في ( بالبخل ) حالية ، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله :


أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما تيه الملوك وأفعال المماليك



وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء . و عيسى بن عمرو والحسن : بضمهما . و حمزة الكسائي : بفتحهما ، وابن الزبير والسدي وجماعة بفتح الباء ، وسكون الخاء . وهي كلها لغات . قال الفراء : البخل [ ص: 247 ] مثقلة لأسد ، والبخل خفيفة لتميم ، والبخل لأهل الحجاز . ويخففون أيضا فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة ، وبعض بكر بن وائل يقولون البخل قال جرير :


تريدين أن نرضى وأنت بخيلة     ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل



وأنشدني المفضل :


وأوفاهم أوان بخل

وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :


وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده     لذو بخل كل على من يصاحب



واختلفوا في إعراب الذين يبخلون ، فقيل : هو في موضع نصب ، بدل من قوله : من كان . وقيل : من قوله مختالا فخورا . أفرد اسم ( كان ) والخبر على لفظ ( من ) ، وجمع الذين حملا على المعنى . وقيل : انتصب على الذم . ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ، ولم يذكروا هذا الوجه . وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلا من الضمير في فخورا ، وهو قلق . فهذه ستة أوجه يكون فيها ( الذين يبخلون ) متعلقا بما قبله ، ويكون الباخلون منفيا عنهم محبة الله تعالى ، وتكون الآية إذا في المؤمنين ، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى الله ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم ، وهي : الخيلاء ، والفخر ، والبخل ، والأمر به ، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال . وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء ، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف ؟ أم ملفوظ به ؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) ويكون الرابط محذوفا تقديره : مثقال ذرة لهم ، أو لا يظلمهم مثقال ذرة . وإلى هذا ذهب الزجاج ، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر ، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ ، معناه : انتظاما واضحا لأن سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهر من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، بل مساق إن الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخبارا عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس . وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة . وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه . وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان ، وقدره أيضا : مبغضون . ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون ( وأعتدنا للكافرين ) فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفرا حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإظهار نبوته . والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك ، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوته وشريعته ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين حقيقة ، فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية ، والآية على هذه التقادير وقول الزجاج - في الكفار ، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم . وتقدم تفسير البخل والأمر به والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول . وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا . والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب .

التالي السابق


الخدمات العلمية