صفحة جزء
( ولا جنبا ) هذه حالة معطوفة على قوله : وأنتم سكارى . إذ هي جملة حالية ، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير ، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو : ولا جنبا . ودخول لا دال على مراعاة كل قيد منهما بانفراده . وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده ، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين ، وأدخل في الحظر . والجنب : هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة وعن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل ، وبه قال الأعمش وداود . وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه .

والجنب من الجنابة وهي البعد ، كأنه جانب الطهر ، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه . قال الزمخشري : الجنب يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى . والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح ، وبه جاء القرآن . وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون قالوا : قوم جنبون ، وجمع تكسير قالوا : قوم أجناب . وأما تثنيته فقالوا : جنبان .

( إلا عابري سبيل ) العبور : الخطور والجواز ، ومنه ناقة عبر الهواجر وعبر أسفار قال :


عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهجف الخاضب



وعابر السبيل هو المار في المسجد من غير لبث فيه ، وهو مذهب الشافعي قال : يمر فيه ولا يقعد فيه . وقال الليث : لا يمر فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد . وقال أحمد وإسحاق : إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد . وقال الزمخشري : من فسر الصلاة بالمسجد قال : معناه لا تقربوا المسجد جنبا إلا [ ص: 257 ] مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه ، أو احتلمتم فيه . وقيل : إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فرخص لهم .

وروي أن رسول الله : ( لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمر فيه وهو جنب ، إلا لعلي . لأنه بيته كان في المسجد ) وقال علي وابن عباس أيضا وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، و محمد ، و زفر ، قالوا : لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز ، وهو قول : مالك والثوري وجماعة . ورجح هذا القول بأن قوله : لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره ، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز ، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته . وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر ، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة . وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق ، كما سمي ابن السبيل .

وأفاد الكلام معنيين : أحدهما : جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به . والثاني : أن التيمم لا يرفع الجنابة ، لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما . وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولا فقال : إلا عابري سبيل ، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال . فإن قلت : كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها ؟ قلت : كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر ، وعبور السبيل عبارة عنه . ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة كقوله : جنبا أي : ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل ، أي : جنبا مقيمين غير معذورين . فإن قلت : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر ؟ قلت : أريد بالجنب الذين لم يغتسلوا ، كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه . ومن قال بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيما له ، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئا سواء كان كثيرا أم قليلا حتى يغتسلا ، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقا إذا خافت النسيان عند الحيض ، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية