صفحة جزء
( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) قال ابن عباس وقتادة ، والنخعي ، والسدي ، وعكرمة وغيرهم : المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن ، وبقي في قومه ، وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه ؛ وإنما كفارته تحرير رقبة . والسبب عندهم في نزولها : أن جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة ؛ فربما قتل من آمن ولم يهاجر ، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه ؛ فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ؛ فنزلت الآية . وسقطت الدية عند هؤلاء ; لأن أولياء المقتول كفرة ؛ فلا يعطون ما يتقوون به . ولأن حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية . وإذا قتل مؤمن في بلاد المسلمين ، وقومه حرب ، ففيه الدية لبيت المال والكفارة . وقالت فرقة : الوجه في سقوط الدية أن أولياءه كفار ؛ سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ، ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، وكفارته ليس إلا التحرير ; لأنه إن قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه ، أو بين أظهر المسلمين ؛ فأهله لا يستحقون الدية ، ولا المسلمون ; لأنهم ليسوا أهله ، فلا تجب على الحالين ؛ هذا قول مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي وأبي ثور . وقال إبراهيم : المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد ؛ فعلى قاتله تحرير رقبة ، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين .

قال بعض المصنفين : اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر ؛ فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف في المشهور عنه : إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة . وقال محمد وأبو يوسف : الدية في العمد والخطأ . وقال مالك : على قاتل من أسلم في دار الحرب ولم يخرج الدية والكفارة إن كان خطأ . والآية إنما كانت في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ; لأنه من لم يهاجر لم يورث ; لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة . وقال الحسن بن صالح : إذا أقام بدار الحرب ، وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه ، وماله ؛ وإذا لحق بدار الحرب ، ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام . وقال الشافعي : إذا قتل مسلما في دار الحرب في الغارة ، وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود ، وعليه الكفارة . وسواء أكان المسلم أسيرا ، أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك ؛ وإن علمه مسلما فقتله ، فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف . والذي يظهر من مدلول هذه الجمل أن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ; ولذلك قابلها بقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا ؛ فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين ؛ فالتحرير والدية . ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين ; لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم ، وإن كان أهله حربيين ، فالتحرير فقط .

( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) قال الحسن ، وجابر بن زيد ، وإبراهيم وغيرهم : وإن كان المقتول خطأ [ ص: 325 ] مؤمنا من قوم معاهدين لكم ؛ فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ؛ وكفارته التحرير وأداء الدية إليهم . وقال النخعي : ميراثه للمسلمين . وقرأها الحسن ، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهو مؤمن . وبهذا قال مالك . وقال ابن عباس ، والشعبي ، وإبراهيم أيضا والزهري : المقتول من أهل العهد خطأ ؛ كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير .

واختلف على هذا في دية المعاهد . فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم . وروي ذلك عن أبي بكر وعمر . وقال مالك وأصحابه : نصف دية المسلم . وقال الشافعي وأبو ثور : ثلث دية المسلم . والذي يظهر من دلالة ( من ) التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو ، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين ؛ والمعنى في النسب لا في الدين ; لأنه مؤمن وهم كفار . فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب ، وهي من قتل مؤمنا خطأ ؛ كأنه قال : وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون . ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد .

وقال أبو بكر الرازي : قوله : وإن كان من قوم عدو لكم استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ; لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه ؛ فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ؛ فثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب . ثم قال : ظاهر الآية يعني : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد ، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة . ويدل عليه : أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ، ذكر الإيمان ، فقال : وهو مؤمن ; لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لكم . انتهى كلامه .

أما قوله : استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب ؛ فليس بصحيح ، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ ولكنه ليس استئنافا ؛ إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه . بدأ أولا بالأشرف ، وهو المؤمن وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين . وأما قوله ; لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا ، وإن كان رجلا فأعطه ؛ فهذا ليس نظير الآية بوجه ؛ وإنما الضمير في كان عائد على المقتول خطأ المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم . وجاء قوله : وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد ; إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء ، وفي جملة الشرط . وقوله : ويدل عليه إلى آخره ، لا يدل عليه لما ذكرنا أن الحال مؤكدة ؛ وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أن الضمير يعود على مطلق المقتول ، لا بقيد الإيمان . وقوله لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو ؛ وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله : وهو مؤمن ؛ لكان الضمير الذي في كان عائدا على المقتول خطأ ; لأنه لم يجرد ذكر لغيره ؛ فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر ، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر .

( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) يعني رقبة لم يملكها ، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها ؛ فعليه صيام شهرين متتابعين . وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك ; إذ لو وجبت الدية لعطفها على الصيام وإلى هذا ذهب الشعبي ومسروق ، وذهب الجمهور : إلى وجوب الدية . قال ابن عطية : وما قاله الشعبي ومسروق وهم ; لأن الدية إنما هي على العاقلة ؛ وليست على القاتل انتهى . وليس بوهم ؛ بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه .

ومعنى التتابع : لا يتخللها فطر . فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعا بإجماع . وليس له أن يسافر فيفطر ، والمرض كالحيض عند : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاوس ، ومالك . وقال ابن جبير ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وعطاء الخراساني ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة وأصحابه : يستأنف إذا أفطر لمرض . وللشافعي القولان . وقال [ ص: 326 ] ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان .

( توبة من الله ) انتصب على المصدر أي رجوعا منه إلى التسهيل والتخفيف ؛ حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم . أو توبة من الله ; أي قبولا منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته . ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة ; لأنه لم يتحرز ، وكان من حقه أن يتحفظ .

( وكان الله عليما حكيما ) أي عليما بمن قتل خطأ ، حكيما حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية