صفحة جزء
( فليكونوا من ورائكم ) : ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين ؛ والمعنى : أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم . وقال الزمخشري : فليكونوا يعني : غير المصلين من ورائكم يحرسونكم ، وجوز الوجهين ابن عطية ، قال : يحتمل أن يكون الذين سجدوا ، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولا بإزاء العدو . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : ( فلتقم ) بكسر اللام . وقرأ أبو حيوة : ( وليأت ) بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة ، واختلف عن أبي عمرو في إدغام التاء في الطاء . وفي قوله : فلتقم طائفة دليل على أنهم انقسموا طائفتين : طائفة حارسة أولا ، وطائفة مصلية أولا معه ، ثم التي صلت أولا صارت حارسة ، وجاءت الحارسة أولا فصلت معه . والظاهر أن الأمر بأخذ الأسلحة ، واجب ; لأن فيه اطمئنان المصلي ؛ وبه قال الشافعي وأهل الظاهر . وذهب الأكثرون إلى الاستحباب .

ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول بعض صلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ؛ وإنما جاء ذلك في السنة .

ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار ; لأنها مبينة ما أجمل في القرآن . الكيفية الأولى : صلت طائفة معه ، وطائفة وجاه العدو ، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ، ويذهبوا وجاه العدو ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولا فصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وهذه كانت بذات الرقاع . الكيفية الثانية : كالأولى ، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم ، ثم قضت بعد سلامه . وهذه مروية في ذات الرقاع أيضا . الكيفية الثالثة : صف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر ، وكبروا جميعا ، وركعوا معه ، ورفعوا من الركوع جميعا ، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ؛ فلما سجدوا ، وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين ، وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركعوا معه جميعا ، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه ؛ فلما صلى سجد الآخرون ، ثم سلم بهم جميعا . وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته . الكيفية الرابعة : مثل هذا إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رءوسهم من السجود ، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين . الكيفية الخامسة : صلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم ، ثم قضى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة في حين واحد .

الكيفية السادسة : يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدو ، وقضت الأخرى . الكيفية السابعة : صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة واحدة . الكيفية الثامنة : صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين ، فكانت له أربع ، ولكل رجل ركعتان . الكيفية التاسعة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ؛ إن كانت الصلاة ركعتين والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه بإزاء العدو ، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة ، وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة ، [ ص: 341 ] وتتم صلاتها ، وكذا في المغرب . إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة . الكيفية العاشرة : قامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدو ، وظهورهم إلى القبلة ؛ فكبرت الطائفتان معه ، ثم ركع ، وركع معه الذين معه ، وسجدوا كذلك ، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدو ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدو فركعوا ، وسجدوا ، وهو قائم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى ، وركعوا معه ، وسجدوا معه ، ثم أقبلت التي بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ، وهو قاعد ، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعا . وهذه كانت في غزوة نجد . الكيفية الحادية عشرة : صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم .

وهذه كانت ببطن نخل . واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله : إنه ما صلى الرسول إلا مرتين : مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة . وذكر ابن عباس : أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف . وقال أبو بكر بن العربي : روي عنه أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة ، يعني كيفية . وقال ابن حنبل : لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ؛ فعلى أي حديث صليت أجزأ . وكذا قال الطبري . وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة ؛ فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء : ( تبوءوا الدار والإيمان ) جعل الإيمان مستقرا لتمكنهم فيه .

( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) تقدم الكلام في ( لو ) بعد ( ود ) في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ) أي : يشدون عليكم شدة واحدة : وقرئ : وأمتعاتكم ، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا : أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية ، جمع شقاء وعطاء . وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة ، وأفرد المسألة ؛ لأنها أبلغ في الإيصال .

( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ) قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ؛ كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس . ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما ، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه . ورخص في ذلك إن كان مطر ، لأن المطر مما يثقل العدو ويمنعه من خفة الحركة للقتال . وقال : إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالبا إن كانا متقاربين في المسافة . ومرض إما لجراحة سبقت ، أو لضعف بنية ، أو غير ذلك مما يعد مرضا . وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة . وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو ؛ فإن الجيش كثيرا ما يصاب من التفريط في الحذر . وقال الضحاك في قوله : وخذوا حذركم ، أي : تقلدوا سيوفكم ؛ فإن ذلك حذر الغزاة .

( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) قال الزمخشري : الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبة واغترار ؛ فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله يهين عدوهم ويخذلهم وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك ؛ وإنما هو تعبد من الله ، كما قال : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) الظاهر أن معنى قضيتم الصلاة ; أي فرغتم منها . والصلاة هنا صلاة الخوف وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره ابن عباس . والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حد ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل والتكبير والتسبيح والدعاء بالنصر والتأييد في جميع الأحوال ؛ فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو حقيق بالذكر والالتجاء إلى الله ; أي فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ; أي أتموها . وذهب قوم إلى أن معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة ، [ ص: 342 ] وشرعتم فيها . ومعنى الأمر بالذكر ; أي صلوها ( قياما ) في حال المسايفة والاختلاط ( وقعودا ) جاثين على الركب من أنين ، ( وعلى جنوبكم ) مثخنين بالجراح ؛ فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها . فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وآمنتم ؛ فأقيموا الصلاة ; أي فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ؛ وبهذا الوجه بدأ الزمخشري ، وهو خلاف الظاهر . قال : وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ؛ فإذا اطمأن فعليه القضاء ، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن . وقيل قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا أنه أمر بالصلاة حالة الأمن بعد الخوف قياما للأصحاء ( وقعودا ) للعاجزين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ؛ فإذا اطمأننتم ; أي أمنتم من الخوف قاله قتادة والسدي ؛ فأقيموا الصلاة ; أي صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر . وقيل فإذا اطمأننتم ; أي فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر ، فأقيموها تامة أربعا .

( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ; أي واجبة في أوقات معلومة ؛ قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة . ولم يقل موقوتة ; لأن الكتاب مصدر ؛ فهو مذكر . وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضا مفروضا ؛ فهما لفظان بمعنى واحد والظاهر الأول ; أي فرضا منجما في أوقات . وقال أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات ، وفسرها في أوقات خمسا ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظرا إلى المعقول ; لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة . وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم تمحى . وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى . ما لخصناه من كلامه ، وطول هو كثيرا في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ؛ ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه . ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) قيل نزلت في الجهاد مطلقا . وقيل في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا من كان معه في أحد ، فشكوا بأن فيهم جراحات . وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : ( فإذا قضيتم الصلاة ) إنما هو قضاء صلاة الخوف .

وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء ، وهي لغة . فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، جل حرف الحلق والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبنا في طلب القوم . وقرأ عبيد بن عمير : ولا تهانوا من الإهانة . نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : " لا أريناك هاهنا " ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة ؛ فإن ما فيهم من الألم مشترك وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب ، وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ؛ فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن . وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثوابا في الآخرة ؛ فأنتم أحرى ؛ إن تصبروا . ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر :


قاتلوا القوم يا خداع ولا يأخذكم من قتالهم قتل     القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

والرجاء هنا على بابه ، وقيل معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله : [ ص: 343 ]

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

أي لم يخف . وزعم الفراء أن الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك . وقرأ الأعرج : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله . وقرأ ابن السميفع : تئلمون بكسر التاء . وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة .

( وكان الله عليما حكيما ) ; أي عليما بنياتكم ؛ حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه . ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) طول المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره . نزلت في طعمة بن أبيرق ؛ سرق درعا في جراب فيه دقيق لقتادة بن النعمان ، وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ؛ فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة . وقيل استودع يهودي درعا فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري . قال السدي : وقيل السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبيرق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأوهموا أن فاعل ذلك ه و لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول هم أن يجادل عن طعمة أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة .

وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث إلا ابن بحر ؛ فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : ( فما لكم في المنافقين فئتين ) ، انتهى . وفي هذه الآية تشريف للرسول ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة ، وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية رجع إلى أحوال المنافقين ؛ فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك ، وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقا ويهجو الصحابة ، وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أن كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قوم . أو أنه : لما أنه يجاهد الكفار أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأن كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه ، بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق .

والكتاب هنا القرآن . ومعنى بالحق ; أي لا عوج فيه ، ولا ميل . والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي . وقيل بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال . وقيل بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن . وعن عمر : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ؛ فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ; لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا ; لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بما له عاقبة حميدة ; لأن ما ليس كذلك عبث وباطل . وقال الماتريدي : بالحق ; أي موافقا لما هو الحق على العباد ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بيانا لأمره . وحق كائن ثابت ، وهو البعث والقيامة ليتزودوا له . أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل . بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ; لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب ، انتهى كلامه .

( ولا تكن للخائنين خصيما ) ; أي مخاصما ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله الزجاج والفارسي ، وغيرهما . ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم والخائنون جمع . فإن بني أبيرق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ؛ فظاهر إطلاق الجمع عليهم ، وإن كان وحده هو الرجل الذي خان في الدرع أو سرقها ؛ فجاء الجمع باعتباره ، واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ، ومن تابعه ممن زكاه ؛ فكانوا شركاء له في الإثم ؛ خصوصا من يعلم أنه هو السارق . أو جاء الجمع [ ص: 344 ] ليتناول طعمة ، وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه . وخصيما يحتاج متعلقا محذوفا ; أي البراء . والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدرع وه و زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري ؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل ؟ وقال يحيى بن سلام وكان يهوديا . وذكر المهدوي أنه كان مسلما . وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ؛ فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي . ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة ، وارتد ونزل على سلافة ، فرماها حسان به في شعر قاله ، ومنه :


وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت     ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو     وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل ، وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ؛ فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتا ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات . وقيل اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه . ( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ) ; أي استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل . قال الزمخشري : واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي . وقال الطبري والزجاج : واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين . قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ; لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر ، وهو يعتقد براءتهم ، انتهى . وقيل هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة ؛ كما يقول الرجل : استغفر الله . وقيل الخطاب صورة للنبي والمراد بنو أبيرق . وقيل المعنى ، واستغفر الله مما هممت به قبل النبوة .

( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ، ويتقرر به توبيخهم . واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم . والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهي ملابسا للمنهي عنه . وروى العوفي عن ابن عباس : أن الرسول خاصم عن طعمة ، وقام يعذر خطيبا . وروى قتادة وابن جبير : أنه هم بذلك ، ولم يفعله .

( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد . وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة ، وارتكاب المآثم . وقيل إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ؛ فجاءت أمه تبكي ، وقالت : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ; لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل .

( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ؛ حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس ، إن اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم . وقيل الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم . وقيل يعود على ( من ) باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتا . وهو معهم ; أي عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية . قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم ، إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح ، انتهى . وهذا كقول الشاعر :

[ ص: 345 ]

يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ     قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل
أتى بجامع إيمان لمعصية     كلا أماني كذب ساقها الأمل

أي إن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء الاستتار . وقال ابن عباس : الاستحياء استحى فاستخفى ; إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء ، ودافعوا به عن السارق . والعامل في ( إذ ) العامل في معهم ، وتقدم الكلام في التبييت .

( وكان الله بما يعملون محيطا ) كناية عن المبالغة في العلم . ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول ؛ جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم . وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ; إذ كان تعالى محيطا بجميع الأقوال والأعمال ؛ فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها .

( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا ) تقدم الكلام على ( هاأنتم هؤلاء ) ، وعلى الجملة بعدها ، قراءة وإعرابا في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة . والأظهر أن يكون ذلك خطابا للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه من عمل عملهم . ويقوي ذلك أن هؤلاء إشارة إلى حاضرين . وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي عن طعمة . وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم وعيد محض ; أي إن الله يعلم حقيقة الأمر ؛ فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره . ومعنى هذا الاستفهام النفي ; أي لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه . والوكيل : الحافظ المحامي والذي يكل الإنسان إليه أموره . وهذا الاستفهام معناه النفي أيضا ؛ كأنه قال : لا أحد يكون وكيلا عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم . وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية