صفحة جزء
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) تقدم الكلام في شرح هذا ، وأعيد نداؤهم ثانيا على طريق التوكيد ، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم ، وتفصيلها نعمة نعمة ، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم ، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم . ( وأني فضلتكم ) : ثم عطف التفضيل على النعمة ، وهو من عطف الخاص على العام ; لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور ، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف ، وأنه يسمى بالتجريد ، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل ، وقال الشاعر :


أكر عليهم دعلجا ولبانه إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما



دعلج : هنا اسم فرس ، ولبانه : صدره ، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له . ( على العالمين ) : أي عالمي زمانهم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم ، أو على كل العالمين ، بما جعل فيهم من الأنبياء ، وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وذلك خاصة لهم دون غيرهم ؛ فيكون عاما والنعمة مخصوصة ، قالوا : ويدفع هذا القول : ( كنتم خير أمة ) ، أو على الجم الغفير من الناس ، يقال : رأيت عالما من الناس ، يراد به الكثرة ، وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة ; لأن من قال بالعموم خص النعمة ، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه ، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقا ظاهر . وقال القشيري : أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : ( وأني فضلتكم على العالمين ) ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، فشتان بين من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه ، فالأول يقتضي الثناء ، والثاني يقتضي الإعجاب . انتهى ، وآخره ملخص من كلامه .

( واتقوا يوما ) أمر بالاتقاء ، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلا للتقوى . فأمروا بالإدامة على التقوى ، أو بتحصيل التقوى ، إن عرض لهم خلل . وانتصاب ( يوما ) إما على الظرف والمتقى محذوف تقديره : اتقوا العذاب يوما ، وإما على المفعول به اتساعا أو على حذف مضاف ، أي عذاب يوم ، أو هول يوم ، وقيل : معناه : جيئوا متقين ، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء ، فإذ ذاك ينتصب ( يوما ) على الظرف ، قال القشيري : العوام خوفهم بعذابه ، فقال : ( واتقوا يوما ) ، ( واتقوا النار ) . والخواص خوفهم بصفاته ، فقال : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) ( وما تكون في شأن ) . الآية ، وخواص الخواص خوفهم بنفسه ، فقال : ( ويحذركم الله نفسه ) . وقرأ ابن السماك العدوي : ( لا تجزي ) من أجزأ ، أي أغنى ، وقيل جزا وأجزأ ، بمعنى واحد ، وهذه الجملة صفة لليوم ، والرابط محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير : لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الضمير بالفعل ، ثم حذف الضمير ، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولا اتساعا ، وهذا اختيار أبي علي ، وإياه نختار ، قال المهدوي : [ ص: 190 ] والوجهان ، يعني تقديره : لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج . وقال الكسائي : لا يكون المحذوف إلا لها ، قال : لا يجوز أن تقول : هذا رجل قصدت ، ولا رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه . انتهى . وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز ، ومنه قوله :


فما أدري أغيرهم تناء     وطول العهد أم مال أصابوا



يريد : أصابوه ، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه أو الضمير هو الظاهر ، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط ، ولا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها ( يوم ) محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : واتقوا يوما يوم لا تجزي ، فحذف ( يوم ) لدلالة ( يوما ) عليه ، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى : ( هذا يوم لا ينطقون ) ، ونظير ( يوم لا تملك ) لا تحتاج الجملة إلى ضمير ، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلا ، وهو بدل كل من كل ، ومنه قول الشاعر :


رحم الله أعظما دفنوها     بسجستان طلحة الطلحات



في رواية من خفض التقدير : أعظم طلحة ، وقد قالت العرب : يعجبني الإكرام عندك سعد ، بنية : يعجبني الإكرام إكرام سعد ، وحكى الكسائي عن العرب : أطعمونا لحما سمينا شاة ذبحوها ، أي لحم شاة . وحكى الفراء عن العرب : أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه ، الدقيق عظمه ، على تقدير : لو تعلمون علم الكبيرة سنه ، فحذف الثاني اعتمادا على الأول ، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في : يعجبني القيام زيد ، ولا يبعد ترجيح حذف ( يوم ) لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب . ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة ، فلا يظهر فيها إعراب ، فيتنافر مع إعراب ما قبله ، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر ، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى ، ولم أر أحدا من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج ، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم ، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضا من الجمل المعطوفة على ( لا تجزي ) أي ولا يقبل منها شفاعة فيه ، ولا يؤخذ منها عدل فيه ، ولا هم ينصرون فيه ، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الروابط .

( نفس عن نفس شيئا ) كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم ، ومعنى التنكير : أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئا من الأشياء ، قال الزمخشري : وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع ، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة . وقال بعضهم : التقدير عن نفس كافرة ، فقيدها بالكفر ، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عن نفس مؤمنة ، وذلك بمفهوم الصفة ، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله : ( ولا يقبل منها شفاعة ) . وقرأ أبو السرار الغنوي : لا تجزي نسمة عن نسمة .

وانتصاب ( شيئا ) على أنه مفعول به ، أي لا يقضي شيئا ، أي حقا من الحقوق ، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر ، أي : ولا تجزي شيئا من الجزاء ، قاله الأخفش ، وفيه إشارة إلى القلة ، كقولك : ضربت شيئا من الضرب .

( ولا يقبل منها شفاعة ) : قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( ولا تقبل ) بالتاء ، وهو القياس والأكثر ، ومن قرأ بالياء فهو أيضا جائز فصيح لمجاز التأنيث ، وحسنه أيضا الفصل بين الفعل ومرفوعه . وقرأ سفيان : ( ولا يقبل ) بفتح الياء ونصب ( شفاعة ) على البناء للفاعل ، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ; لأن قبله : ( اذكروا نعمتي ) و ( أني فضلتكم ) ، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم ، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى ، والضمير في ( منها ) عائد على ( نفس ) المتأخرة لأنها أقرب مذكور ، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع ، ويجوز أن يعود الضمير على ( نفس ) الأولى ، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئا شفاعة ، [ ص: 191 ] هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها ، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى ; لأنها هي المحدث عنها في قوله : ( لا تجزي نفس عن نفس ) والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة ، وظاهر قوله : ( ولا يقبل منها شفاعة ) نفي القبول ووجود الشفاعة ، ويجوز أن يكون من باب :


على لاحب لا يهتدى بمناره



نفى القبول والمقصود نفي الشفاعة ، كأنه قيل : لا شفاعة فتقبل . وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال : الأول : أنه لفظ عام لمعنى خاص ، والمراد : الذين قالوا من بني إسرائيل : نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه ، وأنهم يشفعون لنا عند الله ، فرد عليهم ذلك ، وأويسوا منه لكفرهم ، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة ، والثانية كافرة ، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) . الثاني : معناه لا يجدون شفيعا تقبل شفاعته ; لعجز المشفوع فيه عنه ، وهو قول الحسن . الثالث : معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة ، وإن كان لو شفع لشفع . الرابع : معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار ، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) ، ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) . الخامس : معناه ليس لها شفاعة ، فيكون لها قبول ، وقد تقدم هذا القول . السادس : أنه نفي عام ، أي لا يقبل في غيرها ، لا مؤمنة ولا كافرة ، في مؤمنة ولا كافرة ، قاله الزمخشري .

وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين ، خلافا للمعتزلة ، قالوا : الكبيرة تخلد صاحبها في النار ، وأنكروا الشفاعة ، وهم على ضربين : طائفة أنكرت الشفاعة إنكارا كليا وقالوا : لا تقبل شفاعة أحد في أحد ، واستدلوا بظواهر آيات ، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة .

وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر ، قالوا : وإنما تقبل في الصغائر ، وقال في المنتخب : أجمعت الأمة على أن لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، شفاعة في الآخرة ، واختلفوا لمن تكون ، فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب ، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه ، وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين ، إما بأن لا يدخلوا النار ، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلوا الجنة ، واتفقوا على أنها ليست للكفار ، ثم ذكر نحوا من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين ورد بعضهم على بعض ، يوقف عليها في ذلك الكتاب .

( ولا يؤخذ منها عدل ) العدل : الفدية ، قاله ابن عباس وأبو العالية ، وسميت عدلا لأن المفدى يعدل بها : أي يساويها ، أو البدل : أي رجل مكان رجل . وروي عن ابن عباس : أو حسنة مع الشرك ، ثلاثة أقوال .

( ولا هم ينصرون ) : أتى بالضمير مجموعا على معنى نفس ; لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، كقوله تعالى : ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) وأتى به مذكرا لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم : ثلاثة أنفس ، وجعل حرف النفي منسحبا على جملة اسمية ; ليكون الضمير مذكورا مرتين ، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين ، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة ، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل ، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر ، إذ كان يفوت التناسب . ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب ، أحدهما وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر . والوجه الثاني : وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله ، يفسر فعله الفعل الذي بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وذلك أن ( لا ) هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل ، كهمزة الاستفهام . فكما يجوز في : أزيد قائم ، وأزيد يضرب ، الرفع على الاشتغال ، فكذلك هذا ، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية .

والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف [ ص: 192 ] عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب ، فالأفصح الحمل على الفعل ، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولا ، ويقوي عود الضمير إلى ( نفس ) الثانية بناء الفعل للمفعول ، إذ لو كان عائدا على ( نفس ) الأولى لكان مبنيا للفاعل ، كقوله : ( لا تجزي ) . ومن المفسرين من جعل الضمير في ( ولا هم ) عائدا على النفسين معا ، قال : لأن التثنية جمع . قالوا : وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال ، أحدها : أن معناه لا يمنعون من عذاب الله . الثاني : لا يجدون ناصرا ينصرهم ولا شافعا يشفع لهم . الثالث : لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم . وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى ، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بـ ( لا ) المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر ، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة ; لأن هذا اليوم لم يقع بعد . وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة ، وهي على حسب الواقع في الدنيا ; لأن المأخوذ بحق ، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص ، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه ، أو لا يشفع فيه فيفدى ، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه .

فهذه مراتب يتلو بعضها بعضا . فلهذا ، والله أعلم ، جاءت مترتبة في الذكر هكذا ، ولما كان الأمر مختلفا عند الناس في الشفاعة والفدية ، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة ، جاءت هذه الجمل هنا مقدما فيها الشفاعة ، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى ، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين ، وبدئ هنا بالشفاعة ; لأن ذلك أليق بعلو النفس ، وجاء هنا بلفظ القبول ، وهناك بلفظ النفع ، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء ، وانتفاء ما يترتب عليه ، وبدئ هنا بالقبول ; لأنه أصل للشيء المترتب عليه ، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجودا ، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجودا .

التالي السابق


الخدمات العلمية