صفحة جزء
( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ) لما أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها ، وذكر أن من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال ، أعقب ذلك بفساد وطريقة من كفر بعد الإيمان ، وأنه لا يغفر له على ما بين . والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين ؛ فحيث لقوا المؤمنين " قالوا آمنا " ، وإذا لقوا أصحابهم " قالوا إنا مستهزئون " ، ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه . ومعنى ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات . وقيل ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين وإلى هذا ذهب مجاهد ، وابن زيد . وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : آمنوا وجه النهار واكفروا آخره قصدوا تشكيك المسلمين ، وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام . قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ، ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ، ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد وضعف هذا القول ابن عطية ؛ قال : يدفعه ألفاظ الآية ; لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد . وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة ، وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ، ويحكم عليه بالنار . وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : ( مذبذبين بين ذلك ) ، ويدل عليه قوله : ( بشر المنافقين ) . وقال الزمخشري : المعنى أن الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ، ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ; لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ، ومرئت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء [ ص: 373 ] عندهم ، وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ، ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ، ولم يغفر لهم ; لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة ، واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون . وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ، ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات ؛ والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورة ، انتهى كلامه . وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال .

( لم يكن الله ليغفر لهم ) الجمهور على تقدير محذوف ; أي ثم ازدادوا كفرا ، وماتوا على الكفر ; لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مرارا ، ثم تاب عن الكفر ، وآمن ووافى تائبا أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق ، وإن تردد فيه مرارا . وقيل يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ، ولا يتوبون عنه ؛ فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخبارا عن موتهم على الكفر . وقيل الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أن من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ، ولا عظم قدر . والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر .

وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا ، وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم ، وبين لم يكن زيد ليقوم . فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك مشبعا في سورة آل عمران . وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ؛ والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما ، وهو الإيمان الخالص الثابت ، انتهى . وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم : إن خبر لم يكن هو قولك ( ليقوم ) واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة . والبصريون يقولون : النصب بإضمار ( أن ) ، وينسبك من ( أن ) المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أن يكون خبرا ; لأنه معنى والمخبر عنه جثة . ولكن الخبر محذوف واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة . وأضمرت ( أن ) بعدها ، وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين ( أن ) ظاهرة . ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ، ويهديهم . ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) الخطاب للرسول . ومعنى ( بشر ) أخبر ، وجاء بلفظ ( بشر ) على سبيل التهكم بهم نحو قوله : ( فبشرهم بعذاب أليم ) ; أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب ، كما قال :


تحية بينهم ضرب وجيع

وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحا بفيدها ؛ فلذلك حسن استعمالها في المكروه . ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب . وفي هذه الآية دليل على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين . وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أن قوله : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا ) في أهل النفاق والمراءاة ; لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية . ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين .

( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) أي اليهود والنصارى ومشركي العرب ، أولياء أنصارا ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين ، وهي موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة . والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ ; أي هم الذين .

[ ص: 274 ] ( أيبتغون عندهم العزة ) أي الغلبة والشدة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد . وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم ؛ فكيف تبتغي منهم ؟ وعلى خبث مقصدهم . وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم .

( فإن العزة لله جميعا ) ; أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم . قال تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) . وقال : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) . وقال تعالى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) والفاء في ( فإن العزة لله ) دخلت لما في الكلام من معنى الشرط والمعنى أن تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعا على الحال . ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق . وقيل للمنافقين الذين تقدم ذكرهم ، ويكون التفاتا . وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود ، وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ؛ فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم ب مكة من قوله : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) .

وقرأ الجمهور : وقد نزل مشددا مبنيا للمفعول . وقرأ عاصم : نزل مشددا مبنيا للفاعل . وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففا مبنيا للفاعل . وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنيا للمفعول ، ومحل ( أن ) رفع أو نصب على حسب العامل ؛ فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين . وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم . وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ليس بجيد لأنها إذا خففت إن لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله :


فلو أنك في يوم الرخاء سألتني     طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وخبر أن هي الجملة من ( إذا ) وجوابها . ومثال وقوع جملة الشرط خبرا لـ ( أن ) المخففة من الثقيلة قول الشاعر :


فعلمت أن من تتقوه فإنه     جزر لخامعة وفرخ عقاب

و ( يكفر بها ) في موضع نصب على الحال ، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذي دل عليه قوله : يكفر بها ويستهزأ ; أي فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين ، وحتى غاية لترك القعود معهم . ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي ؛ فجاز لهم أن يقعدوا معهم . والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ; أي في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء . ويحتمل أن يفرد الضمير ، وإن كان عائدا على الكفر ، وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله : يكفر بها ، ويستهزأ بها ; لأنهما راجعان إلى معنى واحد ، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد ، وإن كان المراد به اثنين .

( إنكم إذا مثلهم ) حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم ، وهم يكفرون بآيات الله ، ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ; لأنهم يكونون راضين بالكفر والرضا بالكفر كفر . والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين ؟ أم للمؤمنين ؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ؛ فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ؛ فهم قادرون على الإنكار والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر :


وسمعك صن عن سماع القبيح     كصون اللسان عن النطق به

قال ابن عطية : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة [ ص: 375 ] كقول الشاعر :


عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه     فكل قرين بالمقارن يقتدي

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر ؛ فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ : إنكم إذا مثلهم . ومن ذهب إلى أن معنى قوله : إنكم إذا مثلهم ، إن خضتم كخوضهم ، ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم ، قوله تنبو عنه دلالة الكلام . وإنما المعنى ما قدمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم .

وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل لأن المعنى ، إن عصيانكم مثل عصيانهم ؛ فالمعنى على المصدر كقوله : ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) ، وقد جمع في قوله : ( ثم لا يكونوا أمثالكم ) ، وفي قوله : ( حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان . وقرئ شاذا ( مثلهم ) بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : ( لحق مثل ما أنكم تنطقون ) على قراءة من فتح اللام والكوفيون يجيزون في ( مثل ) أن ينتصب محلا ، وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي في مثل حالك ؛ فعلى قولهم يكون انتصاب " مثلهم " على المحل ، وهو الظرف .

( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) لما اتخذوهم في الدنيا أولياء ، جمع بينهم في الآخرة في النار والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى ، تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية