صفحة جزء
( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ؛ فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين . والمعنى : فأسهموا لنا بحكم أننا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ; أي نيل من المؤمنين ، قالوا : ألم نستحوذ عليكم ; أي ألم نغلبكم ، ونتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فأسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ولا نترك أحدا يؤذيكم . قيل المعنى أن الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام ، فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم ؛ فأسهموا لنا . وقيل المعنى ألم نخبركم بأمر محمد وأصحابه ، ونطلعكم على سرهم ؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم ؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف . وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحا عظيما لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيبا ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيرا لهم ، وتخسيسا لما نالوه من المؤمنين ; لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء ، كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم :


فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب

وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه . وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين ؟ ونظيره قول الحطيئة :


ألم أك جاركم ويكون بيني     وبينكم المودة والإخاء

وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف ، انتهى . يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين . وقرأ أبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى أما استحوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : [ ص: 376 ] ( ألم نشرح لك صدرك ووضعنا ) . إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا .

( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) أي وبينهم وينصفكم من جميعهم . ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجمع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب . وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به .

( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) يعني يوم القيامة ؛ قاله : علي وابن عباس . وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند علي فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ؟ فقال علي : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة . وقيل : إنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان ، قال : فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا .

وقيل : المعنى أن لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ؛ فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) . قال ابن العربي : وهذا بين جدا ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضا . وذلك أن " حتى " غاية فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضا ، وسبي بعضهم لبعض . وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله .

وقيل : سبيلا من جهة الشرع ؛ فإن وجد فبخلاف الشرع . وقيل : ( سبيلا ) حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت . وقيل : سبيلا أي ظهورا ؛ قاله : الكلبي . ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل .

وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنون التجنيس المغاير في : أن يصلحا بينهما صلحا ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالا ، وفي : ( كفروا ) و ( كفروا ) . والتجنيس المماثل في : ( ويستفتونك ) و ( يفتيكم ) ، وفي : ( صلحا ) و ( الصلح ) ، وفي : ( جامع ) و ( جميعا ) . والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين . والتشبيه في : كالمعلقة . واللفظ المحتمل للضدين في : وترغبون أن تنكحوهن . والاستعارة في : نشوزا ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلا . وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني . والطباق في : غنيا أو فقيرا ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين . والاختصاص في : بما تعملون خبيرا خص العمل . والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين . والحذف في مواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية