صفحة جزء
( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) : تقدم الكلام على ( إذ ) في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ) . ومن أجاز نصب ( إذ ) هناك مفعولا به بإضمار ( اذكروا ) وادعى زيادتها ، فقياس قوله هناك إجازته هنا ، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا إن ادعى مدع أن ( إذ ) معطوفة على معمول ( اذكروا ) كأنه قال : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ، ووقت تنجيتكم ، ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي : ( واتقوا يوما ) . وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولا به باذكر ، لا ظاهرة ولا مقدرة ; لأن ذلك تصرف فيها ، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو . وإذا كان كذلك ، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف ، ويكون العامل فيه فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله ، تقديره : وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون ، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه ، وخرج بقوله : ( أنجيناكم ) إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله : ( نعمتي التي أنعمت ) لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوهم ، هو من أعظم ، أو أعظم النعم ، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه ، وقرئ : أنجيناكم ، والهمزة للتعدية إلى المفعول ، كالتضعيف في نجيناكم ، ونسبت هذه القراءة للنخعي ، وذكر بعضهم أنه قرأ : أنجيتكم ، فيكون الضمير موافقا للضمير في ( نعمتي ) والمعنى : خلصتكم من آل فرعون ، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة ، وإن كان أمرهم بذلك فرعون ، وآل فرعون هنا أهل مصر ، قاله مقاتل ، أو أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيد ، أو أتباعه على ذنبه ، قاله الزجاج ، ومنه : ( وأغرقنا آل فرعون ) ، وهم أتباعه على ذنبه ، إذ لم يكن له أب ، ولا بنت ، ولا ابن ، ولا عم ، ولا أخ ، ولا عصبة . وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وروي أنه قيل لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من آلك ؟ فقال : " كل تقي " . ويؤيد القول الثاني : لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد . والمراد بالآل هنا : آل عقيل ، وآل عباس ، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم ، وورد أيضا أن آله : أزواجه وذريته ، [ ص: 193 ] فدل على أنه لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، آل عام وآل خاص .

وفرعون : علم لمن ملك العمالقة ، كما قيل : قيصر ، لمن ملك الروم ، وكسرى ، لمن ملك الفرس ، والنجاشي ، لمن ملك الحبشة ، وتبع ، لمن ملك اليمن . وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط ومصر ، وقد اشتق منه : تفرعن الرجل : إذا تجبر وعتا ، واسمه الوليد بن مصعب ، قاله ابن إسحاق وأكثر المفسرين ، أو فنطوس ، قاله مقاتل ، أو مصعب بن الريان ، حكاه ابن جرير ، أو مغيث ، ذكره بعض المفسرين ، أو قابوس ، وكنيته أبو مرة ، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح . وروي أنه من أهل إصطخر ، ورد إلى مصر فصار بها ملكا .

لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية ، قاله المسعودي ، وقال ابن وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، قالوا : وهذا غير صحيح ; لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة ، والصحيح أنه غيره . وقيل : كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد .

( يسومونكم ) : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهي حكاية حال ماضية ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال : أي سائميكم ، وهي حال من آل فرعون . ( وسوء العذاب ) : أشقه وأصعبه ، وانتصابه مبني على المراد بيسومونكم ، وفيه للمفسرين أقوال : السوم : بمعنى التكليف أو الإبلاء ، فيكون ( سوء العذاب ) على هذا القول مفعولا ثانيا لسام ، أي يكلفونكم ، أو يولونكم سوء العذاب ، أو بمعنى الإرسال ، أو الإدامة ، أو التصريف ، أي : يرسلونكم ، أو يديمونكم ، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة ، أو بمعنى الرفع ، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب ، أو الوسم ، أي : يعلمونكم من العلامة ، ومعناه : أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم ، كالحدادة والنجارة وغير ذلك يكون وسما لهم ، والتقدير : يعلمونكم بسوء العذاب ، وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق ; لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم ، وهذا التضعيف ضعيف ; لأنه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم ، وإنما معناه معنى الوسم ، وهو من السيمياء والسيماء ، ومسومين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة ، وأصول هذا سين وواو وميم ، وهي أصول ( يسومونكم ) ويكون فعل المجرد بمعنى فعل ، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله : كدمث ، ودمثر ، وسبط وسبطر ، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع ، أي : يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة .

وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون ( سوء العذاب ) مفعولا على إسقاط حرف الجر ، وقال بعض الناس : ينتصب ( سوء العذاب ) نصب المصدر ، ثم قدره سوما شديدا . وسوء العذاب : الأعمال القذرة ، قاله السدي ، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، قاله بعضهم . قال : وكان قومه جندا ملوكا ، أو الذبح ، أو الاستحياء المشار إليهما ، قاله الزجاج ، ورد ذلك بثبوت الواو في ( إبراهيم ) فقال : ويذبحون ، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح . وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة ، ومن لا يعمل فالجزية ، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور ، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم . فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا . والنساء يغزلن الكتان وينسجن . وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف ، على نبينا وعليهما السلام .

( يذبحون أبناءكم ) : قراءة الجمهور بالتشديد ، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته ، وقرأ الزهري وابن محيصن : ( يذبحون ) خفيفا من ( ذبح ) المجرد اكتفاء بمطلق الفعل ، وللعلم بتكريره من متعلقاته ، وقرأ عبد الله : يقتلون [ ص: 194 ] بالتشديد مكان يذبحون ، والذبح قتل ، ويذبحون بدل من يسومونكم ، بدل الفعل من الفعل ، نحو : قوله تعالى : ( يلق أثاما يضاعف له العذاب ) وقول الشاعر :


متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا



ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف ; لثبوته في ( إبراهيم ) . وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف .

وقال الفراء : الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب ، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب ، غير الذبح ، ويجوز أن يكون ( يذبحون ) في موضع الحال ، من ضمير الرفع في : ( يسومونكم ) ، ويجوز أن يكون مستأنفا ، وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة ، الله أعلم بصحتها ، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل .

والأبناء : الأطفال الذكور ، يقال : إنه قتل أربعين ألف صبي ، وقيل : أراد بالأبناء الرجال ، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل ، والأول أشهر . والنساء هنا : البنات ، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه ، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن ، وقيل : أراد النساء الكبار ، والأول أشهر .

( ويستحيون نساءكم ) : وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات ، وهو أن يكون المعنى : يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، أو يفتشون أرحام نسائكم . فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك ، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من تحمل منهن ، وقيل : وكل بذلك القوابل ، وقد قيل : إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة ، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء ، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها ، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه ، والذبح أشق الآلام ، واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب ، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدما وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء ، إن أريد بالنساء الكبار ، أو ذبح الإخوة ، إن أريد الأطفال ، وتعلق العار بهن ، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن . وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص ، فإن الله تعالى أغرق فرعون - وهو الآمر - وآله - وهم المباشرون - وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه ، وفيها خلاف بين أهل العلم .

وفي ذلكم بلاء : هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء ، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك ، وهو أقرب مذكور ، فيكون المراد بالبلاء : الشدة والمكروه . وقيل : يعود إلى معنى الجملة من قوله ( يسومونكم ) مع ما بعده ، فيكون معنى البلاء كما تقدم . وقيل : يعود على التنجية ، وهو المصدر المفهوم من قوله : نجيناكم ، فيكون البلاء هنا : النعمة ويكون ( ذلكم ) قد أشير به إلى أبعد مذكور ، وهو أضعف من القول الذي قبله ، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول .

وفي قوله : ( من ربكم عظيم ) دليل على أن الخير والشر من الله تعالى ، بمعنى أنه خالقهما . وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم : إن الخير من الله والشر من الشيطان .

ووصفه بعظيم ظاهر ; لأنه إن كان ( ذلكم ) إشارة إلى التنجية من آل فرعون ، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة ، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجية من السوم أو الذبح والاستحياء ، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس ، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم ، وذبح منهم أربعين ألف صبي ، فأي ابتلاء أعظم من هذا . وكونه عظيما هو بالنسبة للمخاطب والسامع ، لا بالنسبة إلى الله تعالى ; لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام .

قال القشيري : من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه . هؤلاء ، [ ص: 195 ] بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه ، فجعل منهم أنبياء ، وجعل منهم ملوكا ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . انتهى . ولم تزل النعم تمحو آثار النقم ، قال الشاعر :


نأسو بأموالنا آثار أيدينا



ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق ، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة ، فبدأ منها بالتفضيل ، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه ، لا بقاض حق ، ولا شفيع ، ولا فدية ، ولا نصر ، لمن لم يذكر نعمه ، ولم يمتثل أمره ، ولم يجتنب نهيه ، وكان الأمر بالاتقاء مهما هنا ; لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل ، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل ; لأن من ابتدأك بسوابق نعمه ، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمه ، ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء ، ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله : ( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء ، وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم نعمة نعمة إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية