صفحة جزء
( ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء [ ص: 434 ] ومشروعية التيمم ، وكان الوضوء متعذرا عندهم ، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم ، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح ، وقول عبد الله بن أبي ابن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة ، وحديث الإفك . وقال علقمة بن الفغو وهو من الصحابة : إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملا إلا على وضوء ، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما على غير ذلك ، فأعلمه الله أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود ، وذكر تحليلا وتحريما في المطعم والمنكح واستقصى ذلك ، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه ، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض ، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه ، سبحانه وتعالى ، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة ، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء ، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء . ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام ، جاءت العبارة : إذا قمتم ; أي : إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة . وعبر عن إرادة القيام بالقيام ، إذ القيام متسبب عن الإرادة ، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الأعمى لا يبصر ; أي : لا يقدر على الإبصار ، وقوله : ( نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) أي : قادرين على الإعادة . وقوله : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ ) أي : إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسببا عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب .

وقيل معنى قمتم إلى الصلاة : قصدتموها ، لأن من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه . وظاهر الآية يدل على أن الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهرا كان أو محدثا . وقال به جماعة منهم داود . وروي فعل ذلك عن علي وعكرمة . وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث ، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء ، وامسحوا هذين العضوين ، وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد . وقال قوم ، منهم السدي وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم . وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير ; أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ; أي : الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم . وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه ، وإنما ذكروا ذلك طلبا لأن يعم الإحداث بالذكر .

وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم ، وهو رخصة للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك ، فأمر بالسواك ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث . وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب ، وكان كثير من الصحابة يفعله طلبا للفضل ، منهم : ابن عمر . وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضا ونسخ . وقيل : فرضا على الرسول خاصة ، فنسخ [ ص: 435 ] عنه عام الفتح . وقيل : فرضا على الأمة فنسخ عنه وعنهم . ولا يجوز أن يكون فاغسلوا : أمرا للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب ، لأن تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية قاله الزمخشري .

فاغسلوا وجوهكم ، الوجه : ما قابل الناظر وحده طولا منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن . والظاهر أن اللحية ليست داخلة في غسل الوجه ، لأنها ليست منه . وكذلك الأذنان عرضا من الأذن إلى الأذن . ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك ، وهو مذهب مالك ، والجمهور لا يوجبونه . والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأمورا بهما في الآية في غسل الوجه ، ويرون ذلك سنة . وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء . وقال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة . وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ، ولا يعيد من ترك المضمضة ; والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين ، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .

وأيديكم إلى المرافق ; اليد في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب ، وقد غيا الغسل إليها . واختلفوا في دخولها في الغسل ، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها ، وذهب زفر ، وداود إلى أنه لا يجب . وقال الزمخشري : " إلى " تفيد معنى الغاية مطلقا ، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل . ثم ذكر مثلا مما دخل وخرج ثم قال : وقوله : ( إلى المرافق وإلى الكعبين ) لا دليل فيه على أحد الأمرين . انتهى كلامه . وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد " إلى " قرينة دخول أو خروج فإن في ذلك خلافا . منهم من ذهب إلى أنه داخل ، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل ، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل ، فإذا عري من القرينة فيجب حمله على الأكثر . وأيضا فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد ( إلى ) هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشترى ، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشترى ، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز ، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء . فإذا لم يتصور أن يكون داخلا إلا بمجاز ، وجب أن يحمل على أنه غير داخل ، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة . فقول الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج ، لا دليل فيه على أحد الأمرين - مخالف لنقل أصحابنا ، إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول ، والآخر : الخروج . وهو الذي صححوه . وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام . وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين ، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه . وقال ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد ( إلى ) ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها ، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . فالروايتان محفوظتان عن مالك . روى أشهب عنه : أنهما غير داخلتين ، [ ص: 436 ] وروى غيره أنهما داخلتان . انتهى . وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال : إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم .

والظاهر أن الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية ، لأنه أمر بالوضوء للصلاة ، فالآتي بها دونه تارك للمأمور ، وتارك المأمور يستحق العقاب . وأيضا فقد بين أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم ، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه . والظاهر أن أول فروض الوضوء هو غسل الوجه ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الجمهور : النية أولها . وقال أحمد وإسحاق : تجب التسمية في أول الوضوء ، فإن تركها عمدا بطل وضوءه . وقال بعضهم : يجب ترك الكلام على الوضوء ، والجمهور على أنه يستحب . والظاهر أن الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة . والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه . والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وبه قال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي . وقال أبو يوسف ; وغيره : لا يجب . والظاهر أن ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يجب ، وإن ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله . وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك والمزني : يجب . وعن الشافعي القولان . والظاهر أن قوله : وأيديكم ، لا ترتيب في غسل اليدين ، ولا في الرجلين ، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة . وقال أحمد : هو واجب . والظاهر أن التغيية بـ ( إلى ) تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها ، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف ، وبه قال بعض الفقهاء . وقال الجمهور : لا يخل ذلك بصحة الوضوء . والسنة أن يصب الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق .

( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) هذا أمر بالمسح بالرأس ، واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقيل : إنها للإلصاق . وقال الزمخشري : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه . انتهى . وليس كما ذكر ، ليس ما مسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه . وأما أن يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا ، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز ، وتسمية لبعض بكل . وقيل : الباء للتبعيض ، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم : وقال من لا خبرة له بالعربية : الباء في مثل هذا للتبعيض ، وليس بشيء يعرفه أهل العلم . وقيل : الباء زائدة مؤكدة ، مثلها في قوله ( ومن يرد فيه بإلحاد ) ( وهزي إليك بجذع النخلة ) ( ولا تلقوا بأيديكم ) أي : إلحادا ، وجذع ، وأيديكم . وقال الفراء : تقول [ ص: 437 ] العرب هزه وهز به ، وخذ الخطام وبالخطام ، وحز رأسه وبرأسه ، ومده ومد به . وحكى سيبويه : خشنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد ، وهذا نص في المسألة .

وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس ، فروي عن ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن إبراهيم والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها . وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك : وجوب التعميم . والمشهور من مذهب الشافعي : وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح ، ومشهور أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع . ومن غريب ما نقل عمن استدل على أن بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى : وامسحوا برؤسكم ، كقولك : مسحت بالمنديل يدي ، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية ، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد ، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل ، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل ، ويكون في اليد فرضان ، أحدهما : غسل جميعها إلى المرفق ، والآخر : مسح بللها بالرأس والأرجل . وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد ، ولا قائل به . وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضا ذلك ، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد .

والظاهر أن الأمر بالغسل والمسح يقع الامتثال فيه بمرة واحدة ، وتثليث المغسول سنة . وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بسنة . وقال الشافعي : بتثليث المسح . وروي عن أنس ، وابن جبير ، وعطاء مثله . وعن ابن سيرين : يمسح مرتين . والظاهر من الآية : أنه كيفما مسح أجزأه . واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا ، ثم إلى الوسط ، ثلاثة أقوال ، الثابت منها في السنة الصحيحة الأول ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين . والثاني منها قول الحسن بن حي . والثالث : عن ابن عمر . والظاهر أن رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض ، فتحقق المسح بدون الرد . وقال بعضهم : هو فرض . والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزئ ، لأنه ليس مسحا للرأس . وقال الأوزاعي ، والثوري ، وأحمد : يجزئ ، وأن المسح يجزئ ولو بأصبع واحدة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ بأقل من ثلاث أصابع . والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه ، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول أبي العباس بن القاضي من الشافعية ، ويقتضيه مذهب الظاهرية . وقال ابن العربي : لا نعلم خلافا في أن الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر ، وهي قراءة أنس ، وعكرمة ، والشعبي ، والباقر ، وقتادة ، وعلقمة ، والضحاك : ( وأرجلكم ) بالخفض ; والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس . وروي وجوب مسح الرجلين عن : ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة . وقال جمهور الفقهاء : فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بين المسح والغسل ، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ، وابن جرير الطبري : يخير بين المسح والغسل ; ومن أوجب الغسل تأول أن الجر هو خفض على الجواز ، وهو تأويل ضعيف جدا ، ولم يرد إلا في النعت ، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية ، أو تأول على أن الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء ; أي : وافعلوا بأرجلكم الغسل ، وحذف الفعل وحرف الجر ، وهذا تأويل في غاية الضعف . أو تأول على أن الأرجل [ ص: 438 ] من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها . وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ، لأن المسح لم يضرب له غاية . انتهى هذا التأويل . وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام . وروي عن أبي زيد : أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ، ويقولون : تمسحت للصلاة بمعنى : غسلت أعضائي .

وقرأ نافع ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص : وأرجلكم بالنصب . واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله : وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض ، بل هي منشئة حكما . وقال أبو البقاء : هذا جائز بلا خلاف . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور ، وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج . وهذا تخريج من يرى أن فرض الرجلين هو الغسل ، وأما من يرى المسح فيجعله معطوفا على موضع برءوسكم ، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجر دالة على المسح . وقرأ الحسن : ( وأرجلكم ) بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ; أي : اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل ، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح . وتقدم مدلول الكعب . قال ابن عطية : قول الجمهور هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم . وقال غيره : قالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب : هو الذي في وجه القدم ، فيكون المسح مغيا به . وقال ابن عطية : روى أشهب عن مالك : الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم ، ويظهر ذلك من الآية في قوله في الأيدي إلى المرافق إذ في كل يد مرفق . ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب ، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر . انتهى . ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك : متواليا وغير متوال ، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك ، وروي عن مالك والشافعي في القديم : أنها شرط . وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط ، لعطفها بالواو ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ومذهب الشافعي : أنه شرط ، واستيفاء حجج هذه المسائل مذكورة في الفقه ، ولم تتعرض الآية للنص على الأذنين ، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، والأوزاعي ، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم : أنهما من الرأس فيمسحان . وقال الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه . وقال الشافعي : من الوجه هما عضو قائم بنفسه ، ليسا من الوجه ولا من الرأس ، ويمسحان بماء جديد . وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس ، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك .

( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى ، وتقدم مدلول الجنب في ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال . وقال عمر ، وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، والجمهور على خلاف ذلك ، وأنه يتيمم ، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور . والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله : ( فلم تجدوا ماء ) أي : للوضوء والغسل فتيمموا صعيدا طيبا فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد ، وهو قول الجمهور . وذهب الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة . والظاهر أن الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء . ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة ، ولا دلك ، ولا مضمضة ، ولا استنشاق ، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء [ ص: 439 ] إليه . وقال داود وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل . وقال إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن . وقال مالك : يجب الدلك ، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك . وقال أبو حنيفة ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والليث ، وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه ، وزاد أحمد الوضوء . وقال النخعي : إذا كان شعره مفتولا جدا يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه .

وقرأ الجمهور : فاطهروا ، بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين ، وأصله : تطهروا ، فأدغم التاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل . وقرئ : ( فأطهروا ) بسكون الطاء والهاء مكسورة من ( أطهر ) رباعيا ; أي : فأطهروا أبدانكم ، والهمزة فيه للتعدية .

( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء ، إلا أن في هذه الجملة زيادة ( منه ) وهي مرادة في تلك التي في النساء . وفي لفظة " منه " دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين ، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه ، وهذا مذهب الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه . وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد ، والأمر بالمسح ، أنه لو يممه غيره ، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمر يده عليه ، أو لم يمر ، أو ضرب ثوبا فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ، أن ذلك لا يجزئه . وفي كل من المسائل الثلاث خلاف .

( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي : من تضييق ، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء . والإرادة صفة ذات ، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها ، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج ووجود التطهير وإتمام النعمة . وتقدم الكلام على مثل اللام في ( ليجعل ) في قوله : ( يريد الله ليبين لكم ) فأغنى عن إعادته . ومن زعم أن مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام ، جعل زيادة ( من ) في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام ، وإن لم يكن النفي واقعا على فعل الحرج ، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث " دين الله يسر " ، " وبعثت بالحنيفية السمحة " وجاء لفظ الدين بالعموم ، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم .

( ولكن يريد ليطهركم ) أي : بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء . وفي الحديث : " التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج " . وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث . وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم ، كما جاء في مسلم : ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء ) إلى آخر الحديث . وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرد عن الطاعة . وقرأ ابن المسيب : ( ليطهركم ) بإسكان الطاء وتخفيف الهاء .

( وليتم نعمته عليكم ) أي : وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أول السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم ; أي : النعمة المذكورة ثانيا وهي : نعمة الدين . وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها ، فيكون مؤكدا لقوله : ( وأتممت عليكم نعمتي ) وقيل : بغفران ذنوبهم . وفي الخبر : ( تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار ) . ( لعلكم تشكرون ) أي : تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية