صفحة جزء
( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) قرأ الجمهور : واعدنا ، وقرأ أبو عمرو : وعدنا بغير ألف هنا ، وفي الأعراف وطه . ويحتمل ( واعدنا ) : أن يكون بمعنى وعدنا ، ويكون صدر من واحد ، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة ، فيكون الله قد وعد موسى الوحي ، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات ، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى ، وقبول الوعد يشبه الوعد . قال القفال : ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده . وقيل : وعد : إذا كان عن غير طلب ، وواعد إذا كان عن طلب . وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ ( وعدنا ) بغير ألف ، وأنكر قراءة من قرأ : واعدنا بالألف ، ووافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي . وقال أبو عبيد : المواعدة لا تكون إلا من البشر ، وقال أبو حاتم : أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين ، كل واحد منهما يعد صاحبه ، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة ، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى ; لأن كلا منهما متواتر ، فهما في الصحة على حد سواء . وأكثر القراء على القراءة بألف ، وهي قراءة مجاهد ، والأعرج ، وابن كثير ، ونافع ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي . موسى : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن . وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحواني النسابة : أن موسى - على نبينا وعليه السلام - هو : موسى بن عمران بن قاهث ، وتقدم الكلام في لفظ موسى العلم . وأما موسى الحديدة ، التي يحلق بها الشعر ، فهي مؤنثة عربية مشتقة من : أسوت الشيء : إذا أصلحته ، ووزنها مفعل ، وأصلها الهمز ، وقيل : اشتقاقها من : أوسيت : إذا حلقت ، وهذا الاشتقاق أشبه بها ، ولا أصل للواو في الهمز على هذا .

أربعين ليلة : ذو الحجة وعشر من المحرم ، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وعيسى بن عمر بكسر باء ( أربعين ) شاذا اتباعا . ونصب ( أربعين ) على المفعول الثاني لواعدنا ، على أنها هي الموعودة ، أو على حذف مضاف ، التقدير : تمام ، أو انقضاء أربعين . حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه ، قاله الأخفش ، فيكون مثل قوله :


فواعديه سرحتي مالك أو النقا بينهما أسهلا



أي إتيان سرحتي مالك .

ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود ، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه ، والمواعدة لم تقع كذلك . وليلة : منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم ، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله ، شبه أربعين بضاربين ، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع ، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة ، نحو :


على أنني بعدما قد مضى     ثلاثون للهجر حولا كميلا
وعشرين منها أصبعا من ورائنا



ولا تعريف للتمييز ، خلافا لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة . وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب : ما فعلت العشرون الدرهم ، وما جاء نحو هذا ، مما يدل على التعريف ، وذلك مذكور في علم النحو . وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم ; لأن أول الشهر ليلة الهلال ، ولهذا أرخ بالليالي ، واعتماد العرب على الأهلة ، فصارت الأيام تبعا لليالي ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) ، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا ; لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها .

[ ص: 200 ] وهذه المواعدة للتكلم ، أو لإنزال التوراة . قال المهدوي : وكان ذلك بعد أن جاوز البحر ، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله ، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل ، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال ، فقالوا : قد أخلفنا موعده . انتهى كلامه . وقال الزمخشري : لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة ، وضرب له ميقاتا . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية