صفحة جزء
( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء . ولا تستعطوا بآيات الله ثمنا قليلا ; وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا . وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك . ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئان : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيرا من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع . والظاهر أن هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية والقول لعلماء بني إسرائيل . وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه . انتهى . وهذا وإن كان خطابا لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة . وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة ; أي : لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق .

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم ; ذهب ابن مسعود ، وإبراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكن كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ; يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة ، قاله : ابن عباس وطاوس . وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت . وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء . وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إنها الثلاثة في الكافرين ) قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إن بشرا من الناس يتأولون الآيات على ما لم تنزل عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم . وقال الحسن : نزلت في اليهود [ ص: 493 ] وهي علينا واجبة . وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قد الشراك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه : نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب . من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق . وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم ) و ( وإن حكمت فاحكم ) و ( وكيف يحكمونك ) و ( يحكم بها النبيون ) وقبل الثانية : ( وكتبنا عليهم فيها ) وقبل الثالثة : ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه ) الآية . وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمردوا بأن حكموا بغيرها . انتهى . وقال السدي : من خالف حكم الله وتركه عامدا وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقا ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال ابن عباس . واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرا . وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم . وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأن من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز . وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين . وقال ابن الأنباري : فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيـى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق . وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم . وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا . وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .

( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن : الرجم وغيره اليهود ، وبين هنا أن في التوراة : إن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضا ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير . ومعنى وكتبنا : فرضنا . وقيل : قلنا والكتابة بمعنى القول [ ص: 494 ] ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة ، وهي الكتابة في الألواح ، لأن التوراة مكتوبة في الألواح ، والضمير في فيها عائد على التوراة ، وفي : عليهم ، على الذين هادوا . وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم : بنصب والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أن النصب ، وخبر أن هو المجرور ، وخبر والجروح قصاص ، وقدر أبو علي العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات ، وقدره الزمخشري أولا : مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق ، وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن . وينبغي أن يحمل قول الزمخشري : مقتولة ومفقوأة ومجدوع ومقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، لأن المجرور إذا وقع خبرا لا بد أن يكون العامل فيه كونا مطلقا ، لا كونا مقيدا . والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة ، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ . فإذا قلت : بعت الشاء شاة بدرهم ، فالمعنى مأخوذ بدرهم ، وكذلك الحر بالحر ، والعبد بالعبد ; التقدير : الحر مأخوذ بالحر ، والعبد مأخوذ بالعبد ; وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم . وقال الحوفي : بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره : يجب ، أو يستقر . وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق ; والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس . وقرأ الكسائي : برفع " والعين " وما بعدها . وأجاز أبو علي في توجيه الرفع وجوها . الأول : أن الواو عاطفة جملة على جملة ، كما تعطف مفردا على مفرد ، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي : وكتبنا ، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب ، بل ذلك استئناف إيجاب ، وابتداء تشريع . الثاني : أن الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله : إن النفس بالنفس ; أي : قل لهم النفس بالنفس ، وهذا العطف هو من العطف على التوهم ، إذ يوهم في قوله : إن النفس بالنفس ، إنه النفس بالنفس ، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ . الثالث : أن تكون الواو عاطفة مفردا على مفرد ، وهو أن يكون : والعين معطوفا على الضمير المستكن في الجار والمجرور ; أي : بالنفس هي والعين ، وكذلك ما بعدها . وتكون المجرورات على هذا أحوالا مبينة للمعنى ، لأن المرفوع على هذا فاعل ، إذ عطف على فاعل .

وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان : لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم ، وهو لا ينقاس ، إنما يقال منه ما سمع . والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف ، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا ، وذلك لا يجوز عند البصريين [ ص: 495 ] إلا في الضرورة ، وفيه لزوم هذه الأحوال . والأصل في الحال أن لا تكون لازمة . وقال الزمخشري : الرفع للعطف على محل : أن النفس ، لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما أن معنى الجملة التي هي قولك : النفس بالنفس ، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة ، يقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها . وكذلك قال الزجاج : لو قرئ أن النفس لكان صحيحا . انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي ، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه ، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفا على المحل ، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع ، وهذا ليس من العطف على الموضع ، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه ، وإنما هو عطف على التوهم . ألا ترى أنا لا نقول إن قوله : إن النفس بالنفس في موضع رفع ، لأن طالب الرفع مفقود ، بل نقول : إن المصدر المنسبك من أن واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب ، والتقدير : وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، فحكيت بها الجملة : وإما لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأن الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات ، ولا نقول : إن موضع أن النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار .

وقرأ العربيان وابن كثير : بنصب والعين ، والأنف ، والأذن ، والسن ، ورفع والجروح . وروي ذلك عن : نافع . ووجه أبو علي : رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها . وروى أنس أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قرأ ( أن النفس ) بتخفيف " أن " ، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين : أحدهما : أن تكون مصدرية مخففة من أن ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، والجملة في موضع رفع خبر أن ; فمعناها معنى المشددة العاملة في كونها مصدرية . والوجه الثاني : أن تكون أن تفسيرية التقدير ; أي : النفس بالنفس ، لأن كتبنا جملة في معنى القول . وقرأ أبي بنصب النفس والأربعة بعدها . وقرأ : وأن الجروح قصاص ; بزيادة أن الخفيفة ، ورفع الجروح . ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة ، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف ، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشددة غير عاملة من حيث التفسيرية ، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك ، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك . وقرأ نافع : والأذن بالأذن ; بإسكان الذال معرفا ومنكرا ومثنى حيث وقع . وقرأ الباقون : بالضم . فقيل : هما لغتان ، كالنكر والنكر . وقيل : الإسكان هو الأصل ، وإنما ضم إتباعا . وقيل : التحريك هو الأصل ، وإنما سكن تخفيفا .

ومعنى هذه الآية : أن الله فرض على بني إسرائيل أن من قتل نفسا بحد أخذ نفسه ، ثم هذه الأعضاء كذلك ، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعا . والجمهور على أن قوله " أن النفس بالنفس " عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وقال قوم : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، وبه قال أبو حنيفة : وأجمعوا على أن المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي ، ولا يقتل والد بولده ، ولا سيد بعبده . وتقتل جماعة بواحد خلافا لعلي ، وواحد بجماعة قصاصا ، ولا يجب مع القود شيء من المال . وقال الشافعي : يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين ، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) الآية . وقال ابن عباس : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت . وقال أيضا : رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم . وقال الثوري : بلغني عن ابن عباس أنه نسخ ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) قوله : أن النفس بالنفس ، والظاهر في قوله : النفس بالنفس العموم ، ويخرج منه ما يخرج بالدليل ، ويبقى الباقي على عمومه ; والظاهر في قوله : العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين ، وبه قال [ ص: 496 ] أبو حنيفة والشافعي ، وروي عن عثمان وعمر في آخرين أن عليه الدية . وقال مالك : إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة . وبه قال : عبد الملك بن مروان ، وقتادة ، والزهري ، والليث ، ومالك ، وأحمد ، والنخعي . وروي نصف الدية عن عبد الله بن المغفل ، ومسروق ، والنخعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي . قال ابن المنذر : وبه نقول . وتفقأ اليمنى باليسرى ، وتقلع الثنية بالضرس ، وعكسهما ، لعموم اللفظ ، وبه قال ابن شبرمة . وقال الجمهور : هذا خاص بالمساواة ، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا . ولو فقأ عينا لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت : فيها مائة دينار ، وعن عمر : ثلث ديتها . وقال مسروق ، والزهري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر : فيها حكومة . ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض ، فمذهب أبي حنيفة : فيها الأرش . وعن علي اختبار بصره ، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني . وفي الأجفان كلها الدية ، وفي كل جفن ربع الدية ; قاله : زيد بن ثابت ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وإبراهيم ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي . وقال الشعبي : في الجفن الأعلى ثلث الدية ، وفي الأسفل ثلثاها .

واختلف فيمن قطع أنفا هل يجري فيها القصاص أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه ، وإنما فيه الدية . وروي عن أبي يوسف أن في ذلك القصاص إذا استوعب . واختلف في كسر الأنف : فمالك يرى القود في العمد منه ، والاجتهاد في الخطأ . وروي عن نافع : لا دية فيه حتى يستأصله . وروي عن علي : أنه أوجب القصاص في كسره . وقال الشافعي : إن جبر كسره ففيه حكومة ، وما قطع من المارن بحسابه ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي ; وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف : الدية كاملة ، قاله : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه . والمارن ما لان من الأنف ، والأرنبة والروثة طرف المارن . ولو أفقده الشم أو نقصه : فالجمهور على أن فيه حكومة عدل .

والأذن بالأذن ; يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب ، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره . وقال الشافعي : في الأذنين الدية ، وفي إحداهما نصفها . وقال مالك : في الأذنين حكومة ، وإنما الدية في السمع ، ويقاس نقصانه كما يقاس في البصر . وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها . والسن بالسن ; يقتضي أن القلع قصاص ، وهذا لا خلاف فيه ، ولو كسر بعضها . والأسنان كلها سواء : ثناياها ، وأنيابها ، وأضراسها ، ورباعياتها ، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل ; وبه قال : عروة ، وطاوس ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وربيعة ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وروي عن علي ، وابن عباس ، ومعاوية . وروى ابن المسيب عن عمر : أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض ، وذلك : خمسون دينارا ، كل فريضة عشر دنانير ، وفي الأضراس بعير بعير . قال ابن المسيب : فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية ، أو في قضاء معاوية زادت ، ولو كنت أنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين . قال عمر : الأضراس عشرون ، والأسنان اثنا عشر : أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربع أنياب . والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان ، ففي قضاء عمر : الدية ثمانون ، وفي قضاء معاوية : مائة وستون . وعلى قول ابن المسيب : مائة ، وهي الدية كاملة من الإبل . وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين : خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء ; ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لا شيء على القالع . إلا أن مالكا والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها . وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ; ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك : لا يرد ما أخذ . وقال [ ص: 497 ] أبو حنيفة وأصحابه : يرد ، والقولان عن الشافعي . ولو قلعت سن قودا فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة ، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : يجبر على القلع ، به قال ابن المسيب ، ويعيد كل صلاة صلاها بها . وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت ، وروي هذا القول عن عطاء ، وأبو بكر بن العربي قال : وهو غلط . ولو قلع سنا زائدة فقال الجمهور : فيها حكومة ، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد . قال الأدفوي : وما علمت فيه خلافا . وقال زيد بن ثابت : في السن الزائدة ثلث السن ، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها ، روي ذلك عن زيد ، وابن المسيب ، وبه قال : الزهري ، والحسن ، وابن سيرين ، وشريح ، والنخعي ، وعبد الملك بن مروان ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والثوري . وروي عن عمران : فيها ثلث ديتها ، وبه قال : أحمد وإسحاق . وقال النخعي والشافعي وأبو ثور : فيها حكومة ، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها ، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وإن اسود بعضها كان بالحساب ; قاله : الثوري .

والجروح قصاص ; أي : ذات قصاص . ولفظ الجروح عام ، والمراد به الخصوص ، وهو ما يمكن فيه القصاص . وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص ، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . ومدلول والجروح قصاص ; يقتضي أن يكون الجرح بمثله ، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص . واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء ، وبين العبد والحر . وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله : والجروح قصاص ، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص ، فيحصل العموم . معنى وإن لم يحصل لفظا . ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص ، فلا خلاف في وجوبها فيه ، وما لا فلا قصاص فيه كالمأمومة ; وقال أبو عبيد : فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهى إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته . انتهى . وقال غيره : في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية ، وأقاد ابن الزبير من المأمومة ، وأنكر الناس عليه . قال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منها قبله . وأما الجروح في اللحم فقال : فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل ، ويوضع بمقدار ذلك الجرح .

التالي السابق


الخدمات العلمية