صفحة جزء
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين ، لأنه جاء عقيب قوله : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها ، بل يخالف رأسا . ولذلك جاء : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) وهذا كفر ، فناسب ذكر الكافرين . وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح ، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية ، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة .

( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أن التوراة يحكم بها النبيون ، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيها على أنه من جملة الأنبياء ، وتنويها باسمه ، وتنزيها له عما يدعيه اليهود فيه ، وأنه من جملة مصدقي التوراة .

ومعنى : قفينا ، أتينا به ، يقفو آثارهم ; أي : يتبعها . والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله : ( يحكم بها النبيون ) وقيل : على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام . وعلى آثارهم ، متعلق بقفينا ، وبعيسى متعلق به أيضا . وهذا على سبيل التضمين ; أي : ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافيا لهم ، وليس التضعيف في قفينا للتعدية ، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية ، ولا تعدى ( بعلى ) . وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) وتقول : قفا فلان الأثر إذا اتبعه ، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين ، وكان يكون التركيب : ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم ، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول ، وآثارهم المفعول الثاني ، لكنه ضمن معنى جاء وعدي بالياء ، وتعدى إلى آثارهم بعلى . وقال الزمخشري : قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء .

( فإن قلت ) : فأين المفعول الأول في الآية ؟ ( قلت ) : هو محذوف ، والظرف الذي هو على آثارهم كالساد مسده ، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه . انتهى . وكلامه يحتاج إلى تأويل ، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته ، فيكون فعل بمعنى فعل نحو : قدر الله ، وقدر الله ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل ، ثم عداه بالباء ، وتعدية المتعدي لمفعول ، بالباء ، لثان قل أن يوجد ، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد . ولا يجوز فلا يقال : في طعم زيد اللحم ، أطعمت [ ص: 499 ] زيدا باللحم ، والصحيح أنه جاء على قلة تقول : دفع زيد عمرا ، ثم تعديه بالباء فتقول : دفعت زيدا بعمرو أي : جعلت زيدا يدفع عمرا ، وكذلك صك الحجر الحجر . ثم تقول : صككت الحجر بالحجر ; أي : جعلته يصكه . وأما قوله : المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده ، فلا يتجه ; لأن المفعول هو مفعول به صريح ، ولا يسد الظرف مسده ، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به ، ألا ترى إلى قوله : لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه ؟ وقول الزمخشري : فقد قفى به إياه ، فصل الضمير ، وحقه أن يكون متصلا ، وليس من مواضع فصل ، لو قلت : زيد ضربت بسوط إياه لم يجز إلا في ضرورة شعر ، فإصلاحه زيد ضربته بسوط ، وانتصب مصدقا على الحال من عيسى . ومعنى : لما بين يديه ، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله ، كما أن الرسول بين يدي الساعة . وتقدم الكلام في هذا . وتصديقه إياها هو بكونه مقرا أنها كتاب منزل من الله حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية