صفحة جزء
( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) الخطاب بالأمر للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 518 ] وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ; هذا هو الظاهر . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين ; أي : قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم . انتهى . فعلى هذا الإضمار يكون قوله : بشر ; أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف ، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف ، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين ، وإن كان الضمير خطابا لأهل الكتاب ، فيكون شر على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا : ما نعلم دينا شرا من دينكم . وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب ، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين أو حال أهل الكتاب ، فيحتاج إلى حذف مضاف إما قبله ، وإما بعده ; فيقدر قبله : بشر من أصحاب هذه الحال ، ويقدر بعده : حال من لعنه الله ; ولكون لعنه الله . . . . . . . . . أن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر ، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة ، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال : بشر من أولئكم ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، لا قبل اسم الإشارة ، ولا بعده ، إذ يصير من لعنه الله : تفسير أشخاص بأشخاص . ويحتمل أن يكون ذلكم أيضا : إشارة إلى متشخص ، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال : قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي ، أو من جنس المؤمن ، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا ، ويكون أيضا من لعنه الله : تفسير شخص بشخص .

وقرأ النخعي وابن وثاب : أنبئكم من أنبأ ، وابن بريدة ، والأعرج ، ونبيج ، وابن عمران : مثوبة كمعورة . والجمهور : من نبأ ومثوبة كمعونة . وتقدم توجيه القراءتين في ( لمثوبة من عند الله ) وانتصب مثوبة هنا على التمييز ، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله : ( ومن أصدق من الله حديثا ) وتقديم التمييز على المفضل أيضا فصيح كقوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) وهذه المثوبة هي في الحشر يوم القيامة . فإن لوحظ أصل الوضع فالمعنى مرجوعا ، ولا يدل إذ ذاك على معنى الإحسان . وإن لوحظ كثرة الاستعمال في الخير والإحسان ، فوضعت المثوبة هنا موضع العقوبة على طريقة بينهم في : " تحية بينهم ضرب وجيع " ( فبشرهم بعذاب أليم ) و " من " في موضع رفع كأنه قيل : من هو ؟ فقيل : هو من لعنه الله . أو في موضع جر على البدل من قوله : بشر ; وجوزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر ; أي : أنبئكم من لعنه الله . ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدم ، أو الأسلاف والأخلاف ، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم . والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على الوصف الذي حصل به كونه شرا مثوبة ، وهي اللعنة والغضب . وجعل القردة والخنازير منهم ، وعبد الطاغوت ، وكأنه قيل : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أنتم ; أي : هو أنتم . ويدل على هذا المعنى قوله بعد : ( وإذا جاءوكم قالوا آمنا ) فيكون الضمير واحدا . وقرأ أبي وعبد الله : من غضب الله عليهم ، وجعلهم قردة وخنازير ، وجعل هنا بمعنى صير . وقال الفارسي : بمعنى خلق ، لأن بعده وعبد الطاغوت ، وهو معتزلي لا يرى أن الله يصير أحدا عابد طاغوت . وتقدم الكلام في مسخهم قردة في البقرة .

وأما الذين مسخوا خنازير فقيل : شيوخ أصحاب السبت ، إذ مسخ شبانهم قردة ، قاله : ابن عباس . وقيل : أصحاب مائدة عيسى . وذكرت أيضا قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها : أن امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه ، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى [ ص: 519 ] الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون ، وتنفلت هي ، فبعد الثالثة سبيت واستبرأت في دينها ، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتا لها على دينها ، فلما رأتهم قالت : اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره ، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة ، وتقدم تفسير الطاغوت .

وقرأ جمهور السبعة : وعبد الطاغوت . وقرأ أبي : وعبدوا الطاغوت . وقرأ الحسن في رواية : وعبد الطاغوت ، بإسكان الباء . وخرجه ابن عطية : على أنه أراد وعبدا منونا فحذف التنوين كما حذف في قوله : ولا ذاكر الله إلا قليلا ولا وجه لهذا التخريج ، لأن عبدا لا يمكن أن ينصب الطاغوت ، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، والتخريج الصحيح : أن يكون تخفيفا من عبد بفتحها كقولهم : في سلف سلف . وقرأ ابن مسعود في رواية : عبد ، بضم الباء ، نحو شرف الرجل ; أي : صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : أي : صار معبودا من دون الله كقولك : أمر إذا صار أميرا . انتهى . وقرأ النخعي وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون ، وعبد الطاغوت ، مبنيا للمفعول ، كضرب زيد . وقرأ عبد الله في رواية : وعبدت الطاغوت ، مبنيا للمفعول ، كضربت المرأة . فهذه ست قراءات بالفعل الماضي ، وإعرابها واضح . والظاهر أن هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه ، وغضب ، وجعل ، وعبد ، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط ; أي : وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم . ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلا في الصلة ، لكنه على تقدير من ، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ : ومن عبد ; فإما عطفا على القردة والخنازير ، وإما عطفا على " من " في قوله : من لعنه الله . وقرأ أبو واقد الأعرابي : وعباد الطاغوت ; جمع عابد ، كضراب زيد . وقرأ ابن عباس في رواية ، وجماعة ، ومجاهد ، وابن وثاب : وعبد الطاغوت ; جمع عبد ، كرهن ورهن . وقال ثعلب : جمع عابد ، كشارف وشرف . وقال الزمخشري تابعا للأخفش : جمع عبيد ، فيكون إذ ذاك جمع جمع وأنشدوا :


انسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد



وقرأ الأعمش وغيره : وعبد الطاغوت جمع عابد ، كضارب وضرب . وقرأ بعض البصريين : وعباد الطاغوت ; جمع عابد كقائم وقيام ، أو جمع عبد . أنشد سيبويه :


أتوعدني بقومك يابن حجل     أسابات يخالون العبادا



وسمي عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى : عبادا . وقرأ ابن عباس في رواية : وعبيد الطاغوت ; جمع عبد ، نحو كلب وكليب . وقرأ عبيد بن عمير : وأعبد الطاغوت ; جمع عبد ، كفلس وأفلس . وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : وعبد الطاغوت ; يريد : وعبدة جمع عابد ، كفاجر وفجرة ، وحذف التاء للإضافة ، أو اسم جمع كخادم وخدم ، وغائب وغيب . وقرئ : وعبدة الطاغوت ; بالتاء نحو فاجر وفجرة ، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفا على القردة والخنازير مضافا إلى الطاغوت . وقرئ وعابدي ، وقرأ ابن عباس في رواية : وعابدو . وقرأ عون العقيلي : وعابدو ، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد . وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت ، فبالتاء عطفا على القردة والخنازير ، وبالواو عطفا على من لعنه الله أو على إضمارهم . وتحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفردا اسم جنس . وقرأ أبو عبيدة : وعابد ; على وزن ضارب مضافا إلى لفظ الشيطان ، بدل الطاغوت . وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت ; على وزن كلب . وقرأ عبد الله في رواية : وعبد ; على وزن حطم ، وهو بناء مبالغة . وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة : وعبد ; على وزن يقظ وندس ، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت . وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء . قال نصير النحوي صاحب [ ص: 520 ] الكسائي : وهو وهم ممن قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز . وقال الفراء : إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه ، وإلا فلا يجوز في القراءة . وقال أبو عبيد : إنما معنى العبد عندهم الأعبد ، يريدون خدم الطاغوت ، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما هو عبد وأعبد بالألف . وقال أبو علي : ليس في أبنية المجموع مثله ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، وهو بناء يراد به المبالغة ، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت . وقال الزمخشري : ومعناه العلو في العبودية كقولهم : رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة ; قال الشاعر :


أبني لبينى إن أمكم     أمة وإن أباكم عبد



انتهى .

وقال ابن عطية : عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس ، وبني بناء الصفات ، لأن عبدا في الأصل صفة ، وإن كان يستعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ، ولذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء مبالغة . وأنشد أبني لبينى . . . . . . . . . البيت ، وقال : ذكره الطبري وغيره ، بضم الباء ، . انتهى . وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلا فقال : ومنها فعل كنحو سمر وعبد . وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة : وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب ، ونصب الطاغوت أراد عبدا منونا فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال : ( ولا ذاكر الله إلا قليلا ) فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد ، تكون اثنين وعشرين قراءة .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوها ، والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) . انتهى . وهذا على طريق المعتزلة ، وتقدم تفسير الطاغوت . وقرأ الحسن : الطواغيت . وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون : يا إخوة القردة والخنازير ، فينكسون رءوسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية