صفحة جزء
( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ) هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم ، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم ، والذين هم بحضرة [ ص: 532 ] الرسول هم أخلاف أولئك ، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان ، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم .

( كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) تقدم تفسير مثل هذا في البقرة . وقال الزمخشري هنا : ( فإن قلت ) : أين جواب الشرط ؟ فإن قوله فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسن أن تقول : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت . ( قلت ) : هو محذوف يدل عليه قوله : فريقا كذبوا وفريقا [ ص: 533 ] يقتلون ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه . وقوله : فريقا كذبوا ، جواب مستأنف لسؤال قائل : كيف فعلوا برسلهم ؟ . انتهى . قوله : فإن قلت : أين جواب الشرط ؟ سمى قوله : كلما جاءهم رسول - شرطا وليس بشرط ، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيها هو ما يأتي بعد ما المذكورة وصلتها من الفعل كقوله : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم ) ( كلما ألقي فيها ) وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما ، وعلى تسليم تسميته شرطا فذكر أن قوله : فريقا كذبوا ينبو عن الجواب لوجهين : أحدهما : قوله : لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، وليس كما ذكر ، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد ، بل المراد به الجنس وأي نجم طلع ، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين : فريق كذب ، وفريق قتل . والوجه الثاني قوله : ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت ، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه . وليس كما ذكر ، بل مذهب البصريين والكسائي أن ذاك جائز حسن ، ولم يمنعه إلا الفراء وحده ، وهذا كله على تقدير تسليم أن كلما شرط ، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا ، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه . فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت ، وعموم نصوص النحويين على ذلك ، لأنهم حين حصروا ما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا : وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ، ولم يستثنوا هذه الصورة ، ولا ذكروا فيها خلافا . فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله : كذبوا وما عطف عليه ولا يكون محذوفا . وقال الحوفي وابن عطية : كلما ظرف ، والعامل فيه كذبوا . وقال أبو البقاء : كذبوا جواب كلما . انتهى . وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل ، واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها ; قاله الزمخشري . ويحسن مجيئه أيضا كونه رأس آية ; والمعنى : أنهم يكذبون فريقا فقط ، وقتلوا فريقا ولا يقتلونه إلا مع التكذيب ، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب ; أي : اقتصر ناس على تكذيب فريق ، وزاد ناس على التكذيب القتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية