صفحة جزء
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . قال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى آمنوا بالرسول فأثنى الله عليهم ، قيل : هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم ، فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع وقيل : هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن فقرأ عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يس فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله فيهم هذه الآية . وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران واثنين وثمانين من [ ص: 4 ] الحبشة ، وثمانية وستين من الشام .

وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ، وعلى العتو والمعاصي واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة فتحررت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم . وفي الحديث : ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله . وفي وصف الله إياهم بأنهم أشد عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق; ولذلك قل إسلام اليهود . وقيل : ( اليهود ) هنا هم يهود المدينة ; لأنهم هم الذين مالئوا المشركين على المسلمين . وعطف ( الذين أشركوا ) على ( اليهود ) جعلهم تبعا لهم في ذلك ، إذ كان اليهود أشد في العداوة إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة ، فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين; ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله; فهم أسرع للإيمان من كل أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، واللام في ( لتجدن ) هي الملتقى بها القسم المحذوف .

وقال ابن عطية : هي لام الابتداء وليس بمرضي ، و ( الناس ) هنا الكفار; أي ولتجدن أشد الكفار عداوة . ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) أي هم ألين عريكة وأقرب ودا . ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمة لهم الوفاء ، والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه دينا وإيمانا ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صاف ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة; لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك . وحين غلب الروم فارس سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ولإهلاك العدو الأكبر بالعدو الأصغر ، إذ كان مخوفا على أهل الإسلام . واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة . وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ، ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) وفي قوله تعالى : ( الذين قالوا إنا نصارى ) إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم وتعلق ( للذين آمنوا ) الأول ( بعداوة ) ، والثاني ( بمودة ) . وقيل : هما في موضع النعت ، ووصف العداوة بالأشد والمودة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل . وظاهر الآية يدل على أن النصارى أصلح حالا من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة; وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه .

قال بعضهم : وليس على ظاهره ، وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش; ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى ، وإخبارا بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك; لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول . ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود ; لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة ، وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه انتهى . كلام أبي بكر الرازي ; [ ص: 5 ] والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعا . وليس الكلام واردا بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك ، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم; لأنه قال : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) ، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادا ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك . والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود . ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه; أي منهم علماء وعباد ، وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين . واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ، ولذلك لا يرى فيهم زاهد . والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب ، والرهبة الخشية . وقيل : الرهبان مفرد كسلطان; وأنشدوا :


لو عاينت رهبان دير في القلل تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروى ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات . وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان ، وقيل : العالم ، وقيل : رافع الصوت بالقراءة ، وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلالة العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد; فيعظم عند مخترع الأشياء البارئ ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) هذا وصف برقة القلوب ، والتأثر بسماع القرآن . والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانا ، فيكون عاما ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم ، كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله ( ذلك عيسى ابن مريم ) ، وسورة طه إلى قوله ( وهل أتاك حديث موسى ) فبكى ، وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها ( يس ) فبكوا .

وقال ابن عطية : ما معناه : صدر الآية عام في النصارى ، و ( إذا سمعوا ) عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن ، فاضت أعينهم من خشية الله تعالى . انتهى .

وقال السدي : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والمسلمون واستغفروا له . ( وترى ) من رؤية العين ، وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :


ففاضت دموع العين مني صبابة

إقامة للمسبب مقام السبب; لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض; لأن الفيض على جوانب الإناء ناشئ عن امتلائه . قال الشاعر :


قوارض تأتيني ويحتقرونها     وقد يملأ الماء الإناء فيفعم

[ ص: 6 ] ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء ، لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و ( من ) في ( من الدمع ) قال أبو البقاء : فيه وجهان ، أحدهما : أن ( من ) لابتداء الغاية; أي فيضها من كثرة الدموع ، والثاني : أن يكون حالا ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و ( من الحق ) حال من العائد المحذوف ، أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا .

وقيل : ( من ) في ( من الدمع ) بمعنى الباء; أي بالدمع . وقال الزمخشري : ( من الدمع ) من أجل البكاء ، من قولك دمعت عينه دمعا . فإن قلت : أي فرق بين ( من ) و ( من ) في قوله : ( مما عرفوا من الحق ) قلت : الأول لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية : لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم . انتهى .

والجملة من قوله : ( وإذا سمعوا ) تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم . وقرئ : ( ترى أعينهم ) على البناء لما لم يسم فاعله ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) المراد بآمنا : أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية . والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك انتهى . وقال الطبري : معناه ولو قيل : معناه مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر ، لكان صوابا ، وقيل : مع الذين يشهدون بالحق . وقال الزجاج : المراد بالشاهدين : الأنبياء والمؤمنون والكتابة في اللوح المحفوظ ، وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند; أي ثبت ، و ( يقولون ) في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذلك الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالا من الضمير في أعينهم; لأنه مجرور بالإضافة ، لا موضع له من رفع ولا نصب ، إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في ( عرفوا ) لأنها تكون قيدا في العرفان ، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة . أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ، ونطقت به وأقرت ألسنتهم . ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ) هذا إنكار ، واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، وهو عرفان الحق . قال الزمخشري والتبريزي : وموجب الإيمان ، هو الطمع في دخولهم مع الصالحين . والظاهر أن قولهم ذلك ، هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها; لدفع الوساوس والهواجس إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق ، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضا ، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار لما رجعوا إليهم ، ولاموهم على الإيمان; أي وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده . وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير .

وروي عن ابن عباس أن اليهود [ ص: 7 ] أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك ، و ( لا نؤمن ) في موضع الحال ، وهي المقصودة ، وفي ذكرها فائدة الكلام ، وذلك كما تقول : جاء زيد راكبا ، جوابا لمن قال : هل جاء زيد ماشيا أو راكبا ؟ والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور; أي : أي شيء يستقر لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا . وفي مصحف عبد الله : ( وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع ) . وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى ( وما جاءنا من الحق ) لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف . ( ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين ، فالواو عاطفة جملة على جملة ، و ( ما لنا لا نؤمن ) لا عاطفة على نؤمن ، أو على لا نؤمن ، ولا على أن تكون الواو واو الحال ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه .

وقال الزمخشري : والواو في ( ونطمع ) واو الحال ، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في ( لا نؤمن ) ولكن مقيدا بالحال الأولى; لأنك لو أزلتها ، وقلت : وما لنا نطمع ، لم يكن كلاما انتهى .

وما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد ، وهو ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد; لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف ، إلا أفعل التفضيل ، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك ، وذو الحال هنا واحد ، وهو الضمير المجرور بلام لنا; ولأنه أيضا تكون الواو دخلت على المضارع ، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل ، فيحتاج أن يقدر : ونحن نطمع .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ( ونطمع ) حالا من ( لا نؤمن ) على أنهم أنكروا على أنفسهم; لأنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين انتهى .

وهذا ليس بجيد; لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ، ويحتاج إلى تأويل .

وقال الزمخشري : وأن يكون معطوفا على ( لا نؤمن ) على معنى ، وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام; لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين انتهى .

ويظهر لي وجه غير ما ذكروه ، وهو أن يكون معطوفا على نؤمن ، على أنه منفي كنفي نؤمن ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع ، فيكون [ ص: 8 ] في ذلك إنكار; لانتفاء إيمانهم ، وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين ، و ( مع ) على بابها من المعية ، وقيل : بمعنى في ، والصالحون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه ، قاله ابن زيد أو المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل ، وقيل : التقدير أن يدخلنا الجنة ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) ظاهره أن الإثابة بما ذكر ، مترتبة على مجرد القول ، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ، ويبين أنه مقترن به أنه قال : ( مما عرفوا من الحق ) فوصفهم بالمعرفة ، فدل على اقتران القول بالعلم . وقال : ( ذلك جزاء المحسنين ) فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر; تنبيها على هذا الوصف بهم وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم ، وهو رتبة الإحسان ، وهي التي فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة ، وإما أن يكون أريد به العموم ، فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي; ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا : بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان; أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى .

وفسروا هذا القول بقولهم : ( وما لنا لا نؤمن بالله ) والذي يظهر أنه عنى به قولهم ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) لأنه هو الصريح في إيمانهم ، وأما قوله : ( لا نؤمن بالله ) فليس فيه تصريح بإيمانهم ، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، فلا تترتب عليه الإثابة .

وقرأ الحسن ( فآتاهم ) من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة ، والإثابة أبلغ من الإعطاء; لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء ، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ، ولذلك جاء أخيرا ( وذلك جزاء المحسنين ) نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء ، والجزاء لا يكون إلا عن عمل ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) اندرج في ( الذين كفروا وكذبوا ) اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية