صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) نزلت عام الحديبية ، وأقام بالتنعيم ، فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون ، وقيل : كان بعضهم أحرم ، وبعضهم لم يحرم ، فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام ، وقيل : قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه ، فقيل : قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها; هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات ، وأخرج من ذلك الخمر والميسر ، وهما حرامان دائما ، أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال ، وهو الصيد . وكان الصيد مما تعيش به العرب ، وتتلذذ باقتناصه ، ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة . والظاهر أن الخطاب بقوله ( يا أيها الذين آمنوا ) عام للمحل والمحرم ، لكن لا يتحقق الابتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم . وقال ابن عباس : هو للمحرمين . وقال مالك هو للمحلين ، والمعنى ليختبرنكم الله ، ابتلاهم الله به مع الإحرام أو الحرم . والظاهر أن قوله ( بشيء من الصيد ) يقتضي تقليلا ، وقيل : ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم ، كالابتلاء بالأنفس والأموال ، بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاء فكيف يصبرون عند ما هو أشد منه ؟ ومن في ( من الصيد ) للتبعيض في حال الحرمة ، إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم . وقال الطبري وغيره : من صيد البر دون البحر . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون من لبيان الجنس ، قال الزجاج : وهذا كما تقول قال لأمتحننك [ ص: 17 ] بشيء من الرزق ، وكما قال تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) والمراد بالصيد المأكول; لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول . قال الشاعر :


صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وقال زهير :


ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما     كذب الليث عن أقرانه صدقا

ولهذا قال أبو حنيفة إذا قتل المحرم ليثا أو ذئبا ضاريا أو ما يجري مجراه ، فعليه الجزاء بقتله .

( تناله أيديكم ورماحكم ) أي بعض منه يتناول بالأيدي; لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد ، وبعض بالرماح لبعده وتفرقه ، فلا يوصل إليه إلا بالرمح . وقال ابن عباس : أيديكم فراخ الطير وصغار الوحش . وقال مجاهد الأيدي : الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفر والرماح تنال كبار الصيد . قيل : وما قاله مجاهد غير جائز; لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى . يعني أنه لا يطلق على البيض صيد ، ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يئول إليه . قال ابن عطية : والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر; لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد ، وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر; لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه . واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية; لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا . وقرأ النخعي وابن وثاب : ( يناله ) ، بالياء منقوطة من أسفل ، والجملة من قوله تناله في موضع الصفة; لقوله بشيء أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد .

( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) هذا تعليل لقوله ( ليبلونكم ) ومعنى ( ليعلم ) ليتميز من يخاف عقابه تعالى ، وهو غائب منتظر في الآخرة ، فيبقى الصيد ممن لا يخافه ، فيقدم عليه ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ليستمر عليه وهو موجود ، إذ قد علم الله ذلك في الأزل . وقال الكلبي : لم يزل الله تعالى عالما ، وإنما عبر بالعلم عن الرؤية ، وقيل : هو على حذف مضاف; أي ليعلم أولياء الله ، وقيل : المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب; أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس . فالخائف لا يصيد ، وغير الخائف يصيد ، وقيل : يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم ، وقيل : ليظهر المعلوم ، وهو خوف الخائف . وبالغيب في موضع نصب على الحال ، ومعناه أن الخائف غائب عن رؤية الله تعالى ، ومثله ( من خشي الرحمن بالغيب ) ، و ( يخشون ربهم بالغيب ) . وقال عليه السلام : " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه ، فهو غائب عنه . قال ابن عطية : والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس; أي في الخلوة من خاف الله انتهى . عن الصيد من ذات نفسه انتهى . وقرأ الزهري ( ليعلم الله ) من ( أعلم ) . قال ابن عطية : أي ليعلم عباده انتهى . فيكون من ( أعلم ) المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدي عرف ، فحذف المفعول الأول; وهو عباده; لدلالة المعنى عليه ، وبقي المفعول الثاني; وهو ( من يخافه ) .

( فمن اعتدى بعد ذلك ) المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد ، وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق ، وتقديره : فلا يصيدوا; يدل عليه قوله ( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) .

( فله عذاب أليم ) قيل : في الآخرة . وقيل : في الدنيا . قال ابن عباس : يوسع بطنه وظهره جلدا ، ويسلب ثيابه .

( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) الذين آمنوا عام ، وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حال كونهم حرما ، والحرم جمع حرام ، والحرام المحرم ، والكائن بالحرم ، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه ، استدل بقوله : ( وأنتم حرم ) على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ، ومن لم يذهب إلى ذلك قال : المعنى يحرمون بحج أو عمرة ، [ ص: 18 ] وهو قول الأكثر . وقيل : المعنى وأنتم في الحرم . والظاهر النهي عن قتل الصيد ، وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها على النهي عن الاصطياد ، فيستفاد من مجموع الآيتين; النهي عن الاصطياد ، والنهي عن قتل الصيد . والظاهر عموم الصيد . وقد خص هذا العموم بصيد البر; لقوله : ( أحل لكم صيد البحر ) . وقيل : وبالسنة بالحديث الثابت خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور . فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وغيرهم ، ورآه داخلا في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب ، وكل سبع عاد ، فقال : له أن يقتلها مبتدئا بها لا هزبر وثعلب وضبع ، فإن قتلها فدى . وقال مجاهد والنخعي : لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه ، وروي نحوه عن ابن عمر . وقال أصحاب الرأي إن بدأه السبع قتله ولا فدية ، وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى . وقال مالك في فراخ السباع قبل أن تفترس : لا ينبغي للمحرم قتلها ، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات ، وأجمع الناس على إباحة قتلها . وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور; لأنه في حكم العقرب ، وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا . ومذهب أبي حنيفة وجماعة; أن الصيد هو ما توحش مأكولا كان أو غير مأكول . فعلى هذا لو قتل المحرم سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ، ولا يجاوز قيمة شاة . وقال زفر بالغا ما بلغ . وقال قوم : الصيد هو ما يؤكل لحمه ، فعلى هذا لا يجب الضمان في قتل السبع ، وهو قول الشافعي ، ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب . وإذا كان الصيد مما حل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح ، فمذهب أبي حنيفة ومالك ; أنه غير مذكى ، فلا يؤكل لحمه ، وبه قال ابن المسيب وأحد قولي الحسن . ومذهب الشافعي; إن ذبح المحرم الصيد ذكاه . وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان : يحل للحلال أكله ، وهو أحد قولي الحسن .

( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) الظاهر تقييد القتل بالعمد ، فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسيا لإحرامه أو رماه ظانا أنه ليس بصيد فإذا هو صيد ، أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيدا ، فلا جزاء عليه ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم ، وبه قال أبو ثور وداود والطبري ، وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل . وقال ابن عباس : فيما أسنده عنه الدارقطني : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ; لئلا يعودوا ، وقيل : خرج مخرج الغالب ، فألحق به النادر ، وقيل : ذكر التعمد; لأن مورد الآية في من تعمد; لقصة أبي اليسر ; إذ قتل الحمار متعمدا وهو محرم . ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم ; أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد ، والعمد أن يكون ذاكرا لإحرامه قاصدا للقتل ، وروي ذلك عن عمر وابن [ ص: 19 ] عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري . قال الزهري : جزاء العمد بالقرآن ، والخطأ والنسيان بالسنة . قال القاضي أبو بكر بن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمر وابن عباس ، فنعما هي ، وأحسن بها أسوة . وقال مجاهد : معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه ، فإن كان ذاكرا لإحرامه ، فهذا أجل وأعظم من أن يكفر ، وقد حل ولا حج له; لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها . قال : ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء . وقال نحوه ابن جريج . وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمدا ، ويستغفر الله وحجه تام ، وقرأ الكوفيون ( فجزاء ) ، بالتنوين ، ( مثل ) بالرفع ، فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، الخبر تقديره : فعليه جزاء ، ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل . وقرأ عبد الله ( فجزاؤه مثل ) ، والضمير عائد على قاتل الصيد ، أو على الصيد . وفي قراءة عبد الله يرتفع ( فجزاؤه مثل ) على الابتداء والخبر . وقرأ باقي السبعة ( فجزاء مثل ) برفع جزاء ، وإضافته إلى مثل ، فقيل مثل كأنها مقحمة ، كما تقول مثلك من يفعل كذا; أي أنت تفعل كذا ، فالتقدير فجزاء ما قتل ، وقيل : ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي ( فجزاء ) بالرفع والتنوين ( مثل ما قتل ) بالنصب . وقرأ محمد بن مقاتل ( فجزاء مثل ما قتل ) بنصب جزاء ومثل ، والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ، و ( مثل ) صفة ل ( جزاء ) . وقرأ الحسن ( من النعم ) سكن العين تخفيفا ، كما قالوا الشعر . وقال ابن عطية : هي لغة ، و ( من النعم ) صفة لجزاء ، سواء رفع ( جزاء ) ، و ( مثل ) ، أو أضيف ( جزاء ) إلى ( مثل ) أي كائن من النعم ، ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول; لأن ( جزاء ) مصدر موصوف ، فلا يعمل . ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالا من الضمير في ( قتل ) ، يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد على ما قال; لأن المقتول يكون من النعم ، وليس المعنى على ذلك; لأن الذي هو من النعم ، هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم; ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد . والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة ، والخلقة والصغر والعظم ، وهو قول الجمهور . وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدي وابن جبير وقتادة ، وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن . وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد ، قد طول بها جماعة من المفسرين . ولم يتعرض لفظ القرآن لها ، وهي مذكورة في كتب الفقه . وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة ، هي في القيمة ، يقوم الصيد المقتول ، ثم يشتري بقيمته طعاما من الأنعام ، ثم يهدي ، وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد . وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف : يشتري بالقيمة هديا إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاما ، فأعطى كل مسكين نصف صاع ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما . وقال قوم : المثلية فيما وجد له مثل صورة ، وما لم يوجد له مثل ، فالمثلية في القيمة . وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة . ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزئ هديا من النعم مثل ما قتل ، وأن يكفر بطعام مساكين ، وأن يصوم عدل الصيام . والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ، ولا في جنسه ، ولا في أكله وفاقا للشافعي ، وخلافا لأبي حنيفة ، إذ قال عليه جزاء ما أكل ، يعني قيمته ، وخالفه صاحباه فقالا : لا شيء عليه سوى الاستغفار; لأنه تناول منه ، ولا في الدلالة عليه; خلافا لأبي حنيفة وأشهب ، إذ قالا يضمن الدال الجزاء ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف . وقال الشافعي : ومالك وأبو ثور : لا يضمن الدال ، والجزاء على القاتل ، ولا في جرحه ، ونقص قيمته بذلك . وقال المزني عليه شيء . وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلا العشر ، فعليه عشر قيمته . وقال داود لا شيء عليه . والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد ، لم يجب عليهم إلا جزاء واحد; لأنه لا ينسب القتل [ ص: 20 ] إلى كل واحد منهم . فأما المقتول ، فهو واحد يجب أن يكون المثل واحدا ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة ومالك والثوري : يجب على كل واحد منهم جزاء واحد . والظاهر أنه إذا حمل قوله ( وأنتم حرم ) على معنييه وهما محرمون بحج أو عمرة . ومحرمون بمعنى داخلين الحرم ، وإن كانوا محلين أنه إذا قتل المحلون صيدا في الحرم ، أنه يلزمهم جزاء واحد ، وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك على كل واحد جزاء كامل . وظاهر قوله من النعم أنه لا يشترط سن فيجزئ الجفر والعناق على قدر الصيد ، وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزئ في الأضحية وهدي القران . والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله ( وأنتم حرم ) أنه لو صاد الحلال بالحل ، ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان ، وهو حلال ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء .

( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) أي يحكم بمثل ما قتل . قال ابن وهب : من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد ، كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظرا لما أصاب . وأدنى الهدي شاة ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما ، وكذلك قال مالك . والظاهر أنه يحكم به عدلان ، وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر ; استدعى عبد الرحمن بن عوف ، وحكما في ظبي بشاة ، وفعل ذلك جرير وابن عمر . والظاهر أن العدلين ذكران ، فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان ، وقرأ جعفر بن محمد ( يحكم به ذو عدل ) على التوحيد; أي يحكم به من يعدل منكم ، ولا يريد به الوحدة ، وقيل : أراد به الإمام . والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما ، وذلك موكول إليهما ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك وجماعة من أهل العلم . وقال الشافعي : الذي له مثل من النعم ، وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره ، وما لم تحكم فيه الصحابة ، يرجع فيه إلى اجتهادهما ، فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام ، فكل ما كان أقرب شبها به يوجبانه . والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد ، وهو قول مالك . وقال الشافعي : إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما ، أو عمدا فلا; لأنه يفسق به ، واستدل بقوله تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) على إثبات القياس; لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم . وجوزوا في انتصاب قوله ( هديا ) أن يكون حالا من ( جزاء ) فيمن وصفه بمثل; لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة ، وأن يكون بدلا من ( مثل ) في قراءة من نصب مثلا ، أو من محله في قراءة من خفضه ، وأن ينتصب على المصدر . والظاهر أنه حال من قوله به . ومعنى ( بالغ الكعبة ) أن ينحر بالحرم ، ويتصدق به حيث شاء ، عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي : بالحرم ، وقرأ الأعرج ( هديا ) ، بكسر الدال وتشديد الياء ، والجملة من قوله ، يحكم في موضع الصفة; لقوله فـ ( جزاء ) أي حاكم به ذوا عدل . وفي قوله ( منكم ) دليل على أنهما من المسلمين ، وذكر الكعبة; لأنها أم الحرم . قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي ، فما وقف به بعرفة من هدي الجزاء ، ينحر بمنى ، وما لم يوقف به فينحر بمكة ، وفي سائر بقاع الحرم ، بشرط أن يدخل من الحل ، ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة .

( أو كفارة طعام مساكين ) قرأ الصاحبان بالإضافة . والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، إذ الكفارة تكون كفارة هدي ، وكفارة طعام ، وكفارة صيام . ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يضف الكفارة إلى الطعام; لأنها [ ص: 21 ] ليست للطعام ، إنما هي لقتل الصيد . وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة ، كأنه قيل : أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة ، فليست من هذا الباب; لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا . وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع ( طعام ) . وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر ، إلا أنهما أفردا مسكينا على أنه اسم جنس . قال أبو علي ( طعام ) عطف بيان; لأن الطعام هو الكفارة انتهى . وهذا على مذهب البصريين; لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات ، فالأولى أن يعرب بدلا . وقد أجمل في مقدار الطعام ، وفي عدد المساكين . والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين . وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم ، يقوم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاما ، فيطعم كل مسكين نصف صاع ، وروي هذا عن ابن عباس ، وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة . وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد : يقوم الهدي ، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما ، وقال مالك : أحسن ما سمعت أنه يقوم الصيد ، فينظر كم ثمنه من الطعام ، فيطعم لكل مسكين مدا ، ويصوم مكان كل مد يوما .

( أو عدل ذلك صياما ) الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو الطعام . والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلا ولا وزنا ، فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضا غير معين عددا . والصيام مبني على الخلاف في الطعام ، أهو مد أو مدان . وبالمد قال ابن عباس ومالك ، وبالمدين قال الشافعي ، وعن أحمد القولان ، وجوزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول . وفي الظبي ثلاثة أيام ، وفي الإبل عشرون يوما ، وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوما ، قاله ابن عباس . وقال ابن جبير : ثلاثة أيام إلى عشرة أيام . والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان ، وبه قال جماعة من العلماء ، فحيث ما شاء كفر بهما . وقال عطاء وغيره : الهدي والإطعام بمكة ، والصوم حيث شاء . وقرأ الجمهور ( أو عدل ) بفتح العين . وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري ، بكسرها ، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة . والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا ، وهو قول الجمهور . وقال ابن عباس ، وإبراهيم ، وحماد بن سلمة : لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هديا ، ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم . والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد ، وهو قول الجمهور . وقال محمد بن الحسن : الخيار إلى الحكمين . والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة ، فلا يجمع بين الإطعام والصيام ، بأن يطعم عن يوم ، ويصوم في كفارة واحدة ، وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة . وانتصب ( صياما ) على التمييز على العدل ، كقولك على التمرة مثلها زبدا; لأن المعنى أو قدر ذلك صياما .

( ليذوق وبال أمره ) الذوق معروف ، واستعير هنا لما يؤثر من غرامة ، وإتعاب النفس بالصوم . والوبال سوء عاقبة ما فعل ، وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد . قال الزمخشري : ليذوق متعلق بقوله ( فجزاء ) أي فعليه أن يجازى أو يكفر [ ص: 22 ] ليذوق انتهى . وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف ( فجزاء ) أو نون ونصب ( مثل ) ، وأما على قراءة من نون ورفع ( مثل ) فلا يجوز أن تتعلق اللام به; لأن ( مثل ) صفة لـ ( جزاء ) ، وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة ، لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمرا ، لم يجز ، فإن تقدم المعمول على الوصف ، جاز ذلك ، والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف ، التقدير جوزي بذلك ليذوق ، ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك ، وهو غلط .

( عفا الله عما سلف ) أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم .

قال الزمخشري لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم ، وكان الصيد فيها محرما انتهى . وقال ابن زيد : عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم .

( ومن عاد فينتقم الله منه ) أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد ، فإن كان مستحلا ، فينتقم الله منه في الآخرة ، ويكفر أو ناسيا لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث ، أو عاصيا بأن يعود متعمدا عالما بإحرامه ، فلا كفارة عليه ، وينتقم الله منه بإلزام الكفارة فقط ، وكلما عاد فهو يكفر . وقال ابن عباس : إن كان متعمدا عالما بإحرامه ، فلا كفارة عليه ، وينتقم الله منه . وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر ( ومن عاد ) لعموم ، ألا ترى أن ( من ) شرطية أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعم ؟ خلافا لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه ، وأسندوا إلى زيد بن العلاء أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم ، فتجوز له ثم عاد ، فأرسل الله عليه نارا ، فأحرقته ، وذلك قوله تعالى : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) وعلى تقدير صحة هذا الحديث ، لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية ، إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه . والفاء في ( فينتقم ) جواب الشرط ، أو الداخلة على الموصول المضمن معنى الشرط ، وهو على إضمار مبتدأ; أي فهو ينتقم الله منه .

( والله عزيز ذو انتقام ) أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم ، لم يغالبه أحد ، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويف .

التالي السابق


الخدمات العلمية