صفحة جزء
( ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) . ( ذوا عدل ) صفة لقوله ( اثنان ) ، و ( منكم ) صفة أخرى ، و ( من غيركم ) صفة لآخران . قال الزمخشري : ( منكم ) من أقاربكم ، و ( من غيركم ) من الأجانب ( إن أنتم ضربتم في الأرض ) ، يعني إن وقع الموت في السفر ، ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح وقيل : ( منكم ) من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر وعن مكحول نسخها قوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) انتهى . وما اختاره الزمخشري ، وبدأ به أولا; هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري ، قالوا : أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة ، إذ هم أحق بحال الوصية ، وأدرى بصورة العدل فيها ، فإن كان الأمر في سفر ، ولم تحضر قرابة ، أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب ، وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين ، حتى ابن عطية قال : لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن زياد ، كانا نصرانيين ، وساقا الحديث المذكور أولا ، فهذا القول مخالف لسبب النزول ، وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري ; هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة [ ص: 41 ] والسدي ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد ، واختاره أحمد قالوا : معنى قوله : ( منكم ) من المؤمنين ، ومعنى ( من غيركم ) من الكفار . قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة ، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب ، وعبدة الأوثان ، وأنواع الكفار . ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما; أن الآية محكمة . قال أحمد : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر ، عند عدم المسلمين . ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال : قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) خطاب لجميع المؤمنين ، فلما قال : ( أو آخران من غيركم ) كان من غير المؤمنين لا محالة ، وبأنه لو كان الآخران مسلمين ، لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر; لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر ، وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة . وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه ، فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين ، وبسبب النزول ، وهو شهادة النصرانيين على بديل ، وكان مسلما ، وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما ، وما أنكر عليه أحد من الصحابة ، فكان ذلك إجماعا ، وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل ، وليس فيها منسوخ . وقال أبو جعفر النحاس ناصرا للقول الأول : هذا ينبني على معنى غامض في العربية ، وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول ، تقول : مررت بكريم وكريم آخر ، فقوله ( آخر ) يدل على أنه من جنس الأول ، ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ، ولا مررت برجل وحمار آخر ، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله أو آخران من غيركم; أي عدلان ، والكفار لا يكونون عدولا انتهى . وما ذكره في المثل صحيح ، إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب; لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول . وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف ، واندرج آخر في الجنس الذي قبله ، ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ، ومررت برجل قائم وآخر قاعد ، واشتريت فرسا سابقا وآخر ، مبطئا ، فلو أخرت آخر في هذه المثل ، لم تجز المسألة ، لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر ، ومررت برجل قائم وقاعد آخر ، واشتريت فرسا سابقا ومبطئا آخر ، لم يجز ، وليست الآية من هذا القبيل ، إلا أن التركيب فيها جاء ( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) فآخران من جنس قوله ( اثنان ) ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا ، يعتبر وصف قوله ( ذوا عدل منكم ) ، وإن كان مغايرا لقوله من غيركم ، كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك : عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران ، إذ ليس [ ص: 42 ] من شرط ( آخر ) إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه ، وهو على ما ذكرته هو لسان العرب; قال الشاعر :


كانوا فريقين يصغون الزجاج على قعس الكواهل في أشداقها ضخم     وآخرين على الماذي فوقهم
من نسج داود أو ما أورثت إرم

التقدير كانوا فريقين فريقا ، أو ناسا يصغون الزجاج ثم ، قال : وآخرين ترى المأذي فآخرين من جنس قولك فريقا ، ولم يعبره بوصفه ، وهو قوله : يصغون الزجاج; لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس ، وهذا الفرق قل من يفهمه ، فضلا عمن يعرفه ، وأما القول الثالث الذي حكاه الزمخشري ; وهو أنه منسوخ ، وحكاه عن مكحول ; فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء ، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين ، والناسخ قوله : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، وقوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ، وزعموا أن آية الدين من آخر ما نزل . والظاهر أن أو للتخيير . وقال به ابن عباس فمن جعل قوله ( من غيركم ) أي من عشيرتكم كان مخيرا بين أن يستشهد أقاربه ، أو الأجانب من المسلمين ، ومن زعم أن قوله من غيركم أي من الكفار فاختلفوا . فقيل غيركم يعني به أهل الكتاب ، وروي ذلك عن ابن عباس . وقيل : أهل الكتاب والمشركين ، وهو ظاهر قوله ( من غيركم ) ، وقيل : أو للترتيب إذا كان قوله ( من غيركم ) يعني به من غير أهل ملتكم ، فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم .

( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جرى على لفظ ( إذا حضر أحدكم الموت ) لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض ، فأصابته مصيبة الموت ، وإنما جاء الالتفات جمعا; لأن قوله ( أحدكم ) معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت ، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعايشكم . وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين ، مشروط بالسفر في الأرض ، وحضور علامات الموت .

( تحبسونهما من بعد الصلاة ) الخطاب للمؤمنين ، لا لما دل عليه الخطاب في قوله ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم ) لأن من ضرب في الأرض وأصابه الموت ، ليس هو الحابس ( تحبسونهما ) صفة لآخران ، واعترض بين الموصوف والصفة بقوله ( إن أنتم . . . إلى الموت ) ، وأفاد الاعتراض; أن العدول إلى آخرين من غير الملة ، أو القرابة ، حسب اختلاف العلماء في ذلك ، إنما يكون مع ضرورة السفر ، وحلول الموت فيه . استغنى عن جواب ( إن ) . لما تقدم من قوله ( أو آخران من غيركم ) انتهى . وإلى أن ( تحبسونهما ) صفة . ذهب الحوفي وأبو البقاء ، وهو ظاهر كلام ابن عطية ، إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدمناه .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما موضع ( تحبسونهما ) ؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل : بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف إن ارتبنا فيهما ؟ فقيل : ( تحبسونهما ) . وما قاله الزمخشري من الاستئناف ، أظهر من [ ص: 43 ] الوصف; لطول الفصل بالشرط ، والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته . وإنما قال الزمخشري : بعد اشتراط العدالة فيهما; لأنه اختار أن يكون قوله ، أو آخران من غيركم ، معناه أو عدلان آخران من غير القرابة . وتقدم من كلام أبي علي ; أن العدول إلى آخرين من غير الملة ، أو القرابة ، إنما يكون مع ضرورة السفر ، وحلول الموت فيه ، إلى آخر كلامه ، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) فاستشهدوا آخرين من غيركم ، أو فالشاهدان آخران من غيركم . والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين ، أو آخرين من غير المؤمنين ، فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت ، أن يشهد اثنين ، ويكون تقدير الجواب : إن أنتم ضربتم في الأرض ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فاستشهدوا اثنين ، إما منكم ، وإما من غيركم . ولا يكون الشرط إذ ذاك قيدا في آخرين من غيرنا فقط ، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض ، وشارف الموت ، فيشهد اثنان منا ، أو من غيرنا . وقال ابن عباس : في الكلام محذوف ، تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد استشهدتموهما على الإيصاء . وقال ابن جبير تقديره; وقد أوصيتم . قيل : وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف ، والموصى يحلف . ومعنى ( تحبسونهما ) تستوثقونهما لليمين ، والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام ، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين ، وظاهر عوده على اثنين منا ، أو من غيرنا ، سواء كانا وصيين ، أو شاهدين ، وظاهر قوله من بعد الصلاة; أن الألف واللام للجنس ، أو من بعد أي صلاة ، وقد قيل : بهذا الظاهر ، وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما ، وذلك تغليظ في اليمين . وقال الحسن : بعد العصر ، أو الظهر; لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وقال الجمهور هي صلاة العصر; لأنه وقت اجتماع الناس ، وكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، استحلف عديا وتميما بعد العصر عند المنبر ، ورجح هذا القول بفعله وبقوله في الصحيح : " من حلف على يمين كاذبة بعد العصر ، لقي الله وهو عليه غضبان " . وبأن التحليف كان معروفا بعدهما ، فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ ، وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ، ويذكرون الله فيه ، فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد ، وكذا في قول الحسن .

( فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب ، فمتى لم توجد الريبة ، فلا تحليف . وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة ، وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم . والفاء في قوله ( فيقسمان ) عاطفة هذه الجملة على قوله ( تحبسونهما ) هذا هو الظاهر . وقال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ، ولكن تجعله جزاء ، كقول ذي الرمة :


وإنسان عيني يحسر الماء تارة     فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره : عندهم; إذا حسر بدا ، فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف ، وإبقاء جوابه ، فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء ، وإلى تقدير مضمر بعد الفاء; أي فهما يقسمان ، وفهو يبدو . وخرج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر ، وهو أن قوله : يحسر الماء تارة; جملة في موضع الخبر ، وقد عريت عن الرابط ، فكان القياس أن لا تقع خبرا للمبتدأ ، لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ ، فحصل الربط بذلك ، و ( لا نشتري ) هو جواب قوله فيقسمان بالله ، وفصل بين القسم وجوابه بالشرط . والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما ، فحلفوهما . وقيل : إن أريد بهما [ ص: 44 ] الشاهدان ، فقد نسخ تحليف الشاهدين ، وإن أريد الوصيان ، فليس بمنسوخ تحليفهما . وعن علي أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما . والضمير في ( به ) عائد على الله ، أو على القسم ، أو على تحريف الشهادة ، أقوال ثالثها لأبي علي ، وقوله : ( نشتري به ثمنا ) كناية عن الاستبدال عرضا من الدنيا ، وهو على حذف مضاف; أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشتري ، ولا يصح أن يكون ( لا نشتري ) لا نبيع هنا ، وإن كان ذلك في اللغة . قال الزمخشري : أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم لأجله قريبا منا ، وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا ، فإنهم داخلون تحت قوله : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) ، وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره; لأن الاثنين والآخرين عنده مؤمنون ، فاندرجوا في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين ) الآية . قال ابن عطية : وخص ذا القربى بالذكر; لأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل . والجملة من قوله : ( ولا نكتم شهادة الله ) معطوفة على قوله : ( لا نشتري به ثمنا ) فيكون من جملة المقسم عليه . وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها ، الناهي عن كتمانها ، ويحتمل أن يكون ( ولا نكتم ) خبرا منهما ، أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمان شهادة الله ، ولا يكون داخلا تحت المقسم عليه . وقرأ الحسن والشعبي ( ولا نكتم ) بجزم الميم نهيا أنفسهما عن كتمان الشهادة . ودخول ( لا ) الناهية على المتكلم قليل ، نحو قوله :


إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد     بها أبدا ما دام فيها الجراضم

. وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه ( شهادة الله ) بنصبهما ، وتنوين ( شهادة ) ، وانتصبا بـ ( نكتم ) . التقدير ولا نكتم الله شهادة . قال الزهراوي : ويحتمل أن يكون المعنى; ولا نكتم شهادة والله ، ثم حذف الواو ، ونصب الفعل إيجازا . وروي عن علي والسلمي والحسن البصري شهادة ، بالتنوين ، وآلله ، بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم ، دخلت تقريرا وتوقيفا لنفوس المقسمين ، أو لمن خاطبوه . وروي عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على ( شهادة ) ، بالهاء الساكنة ، والله بقطع ألف الوصل دون مد الاستفهام . قال ابن جني : الوقف على ( شهادة ) ، بسكون الهاء واستئناف القسم ، حسن; لأن استئنافه في أول الكلام ، أوقر له ، وأشد هيبة من أن يدخل في عرض القول . وروي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش ( شهادة ) بالتنوين ( الله ) بقطع الألف ، دون مد ، وخفض هاء الجلالة ، ورويت هذه عن الشعبي . وقرأ الأعمش وابن محيصن ( لملاثمين ) ، بإدغام نون ( من ) في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى اللام .

( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثما; أي ذنبا بحنثهما في اليمين ، بأنها ليست مطابقة للواقع ( وعثر ) استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد أن لم يرج ، ولم يقصد ، كما تقول : على الخبير سقطت ووقعت على كذا . قال أبو علي : الإثم هنا ، هو الشيء المأخوذ; لأن أخذه إثم فسمي إثما ، كما يسمى ما أخذ بغير الحق ، مظلمة . قال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ، ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى . والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ ، بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما ( إنا إذا لمن الآثمين ) ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ، ما قيل فيه : استحقا إثما; لأنهما ظلما ، وتعديا ، وذلك هو الموجب للإثم .

( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) [ ص: 45 ] قرأ الحرميان والعربيان والكسائي ( استحق ) مبنيا للفاعل ( والأوليان ) مثنى مرفوع تثنية الأولى ، ورويت هذه القراءة عن أبي وعلي وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه . وقرأ حمزة وأبو بكر ( استحق ) مبنيا للمفعول ( والأولين ) جمع الأول . وقرأ الحسن ( استحق ) مبنيا للفاعل ، الأولان مرفوع ، تثنية أول . وقرأ ابن سيرين الأوليين ، تثنية الأول ، فأما القراءة الأولى ، فقال الزمخشري : ( فآخران ) فشاهدان آخران ( يقومان مقامهما من الذين استحق ) عليهم; أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم ، وهم أهل الميت ، وعترته . وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما . ( والأوليان ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما الأوليان ، كأنه قيل : ومن هما ، فقيل ( الأوليان ) . وقيل : هما بدل من الضمير في ( يقومان ) أو من آخران ، ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة; لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى . وقد سبقه أبو علي إلى أن تخريج رفع ( الأوليان ) على تقدير هما الأوليان ، وعلى البدل من ضمير ( يقومان ) ، وزاد أبو علي وجهين آخرين : أحدهما; أن يكون ( الأوليان ) مبتدأ مؤخرا ، والخبر آخران يقومان مقامهما ، كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان ، فيجيء الكلام ، كقولهم : تميمي أنا ، والوجه الآخر أن يكون ( الأوليان ) مسندا إليه ( استحق ) . قال أبو علي فيه شيء آخر ، وهو أن يكون ( الأوليان ) صفة لآخران; لأنه لما وصف خصص ، فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى . وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ، ولا العكس . وعلى ما جوزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : ( فآخران ) مبتدأ والخبر ( يقومان ) ويكون قد وصف بقوله من الذين ، أو يكون قد وصف بقوله ( يقومان ) ، والخبر ( من الذين ) ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ، أو يكونان صفتين لقوله : ( فآخران ) ، ويرتفع آخران على خبر مبتدأ محذوف; أي فالشاهدان آخران ، ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل; أي فليشهد آخران . وأما مفعول ( استحق ) فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم; لأن الإثم محذوف لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وقد سبقه أبو علي والحوفي إلى هذا التقدير ، وأجازوا وجهين آخرين ، أحدهما : أن يكون التقدير استحق عليهم الإيصاء ، والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية . وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله ( الأوليان ) بـ ( استحق ) ، فقد أجازه أبو علي كما تقدم ، ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها . وأما ( الأوليان ) بالميت ، فلا يجوز أن يستحقا فيسند ( استحق ) إليهما ، إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله الأوليان بـ ( استحق ) على تقدير حذف مضاف ناب عنه ( الأوليان ) ، فقدره استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال ، فيسوغ توجيهه ، وأجاز ذلك ابن جرير ، على أن يكون التقدير; من الذين استحق عليهم إثم الأولين ، وأجاز ابن عطية أيضا أن يرتفع ( الأوليان ) بـ ( استحق ) ، وطول في تقرير ذلك ، وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقا حقيقة لقوله : ( استحقا إثما ) ، وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته ، أو لأهل دينه ، فجعل تسورهم عليه استحقاقا مجازا ، والمعنى من الجماعة التي غابت ، وكان حقها أن تحضر وليها . قال : فلما غابت وانفرد هذا الموصي ، استحقت هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية ، وأمر الأوليين على هذه الجماعة ، ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل [ ص: 46 ] بعلى لما كان باقتدار ، وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه ، إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه ، فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى . والضمير في ( مقامهما ) عائد على شاهدي الزور ، و ( من الذين ) هم ولاة الميت . وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء : هذا من أحسن ما قيل فيه; لأنه لم يجعل حرفا بدلا من حرف ، يعني أنه لم يجعل ( على ) بمعنى ( في ) ، ولا بمعنى ( من ) ، وقد قيل : بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله : ( إذا اكتالوا على الناس ) أي من الناس استحق عليهم الإثم ، وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء ، واختار أبو عبد الله الرازي وابن الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال . قال أبو عبد الله : وقد أكثر الناس في أنه لم يوصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولا ، والأصح عندي فيه وجه واحد; وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم ، فإن من أخذ مال غيره ، فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له ، فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى . ( والأوليان ) بمعنى الأقربين إلى الميت ، أو الأوليان بالحلف; وذلك أن الوصيين ادعيا; أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء ، وهما أنكرا ذلك ، فاليمين حق لهما ، كإنسان أقر لآخر بدين ، وادعى أنه قضاه ، فترد اليمين على الذي ادعى أولا; لأنه صار مدعى عليه . وتلخص في إعراب ( الأوليان ) على هذه القراءة وجوه الابتداء ، والخبر لمبتدأ محذوف ، والبدل من ضمير ( يقومان ) والبدل من ( آخران ) ، والوصف لـ ( آخران ) والمفعولية بـ ( استحق ) على حذف مضاف مختلف في تقديره .

وأما القراءة الثانية ، وهي بناء ( استحق ) للفاعل ، ورفع الأوليين ، فقال الزمخشري : معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ، ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى .

وقال ابن عطية : ما ملخصه ( الأوليان ) رفع بـ ( استحق ) ، وذلك على أن يكون المعنى ( من الذين استحق عليهم ) مالهم وتركهم شاهدا الزور ، فسميا أوليين; أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته ، فجازا فيها . أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم ، فاستحق بمعنى حق ، كاستعجب وعجب . أو يكون ( استحق ) بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم ، فاستحقا عليهم; أي استحقا لهم وسعيا فيه ، واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى . وقال بعضهم : المفعول محذوف; أي من الذين استحق عليهم الأوليان وصيتهما .

وأما القراءة الثالثة ، وهي قراءة ( استحق ) مبنيا للمفعول ، والأولين جمع الأول ، فخرج على أن الأولين وصف للذين . قال أبو البقاء : أو بدل من الضمير المجرور بعلى . قال الزمخشري : أو منصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة; لكونهم أحق بها انتهى . وهذا على تفسير أن قوله : ( أو آخران من غيركم ) أنهم الأجانب ، لا أنهم الكفار . وقال ابن عطية : معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم; أي غلبوا عليه ، ثم وصفهم بأنهم أولون; أي في الذكر في هذه الآية ، وذلك في قوله : ( اثنان ذوا عدل منكم ) انتهى .

وأما القراءة الرابعة ، وهي قراءة الحسن ، فالأولان مرفوع باستحق . قال الزمخشري : ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي ، وهو أبو حنيفة وأصحابه; لا يرون ذلك ، فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما أختانا ، فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ، ادعيا الشراء فيما كتماه ، فأنكر الورثة ، فكان اليمين على الورثة; لإنكارهم الشراء .

وأما القراءة الخامسة ، وهي قراءة ابن سيرين ; فانتصاب الأوليين على المدح .

( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ) أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق ، والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولا وحرفا فيه وما زدنا على الحد . وقال ابن عباس : ليميننا أحق من يمينهما ومن [ ص: 47 ] قال : الشهادة في أول القصة ، ليست بمعنى اليمين ، قال هنا الشهادة يمين ، وسميت شهادة; لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة . قال ابن الجوزي : ( أحق ) أصح لكفرهما وإيماننا انتهى .

( إنا إذا لمن الظالمين ) ختما بهذه الجملة تبريا من الظلم ، واستقباحا له ، وناسب الظلم هنا لقولهما : ( وما اعتدينا ) . والاعتداء والظلم ، متقاربان ، وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور بقوله ( لمن الآثمين ) لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع ، وكتمهما الشهادة ، يجران إليهما الإثم .

( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) أي ذلك الحكم السابق ، ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ، ويحلفان اليمين المشروعة في الآية ، قوبلت هذه الحالة بقوله : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ، ولا تحريف ولا كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة ، وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم ، وترد على شهود آخرين ، فعمل بأيمانهم ، وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم ، قوبلت هذه الحالة بقوله : ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) . وكان العطف بأو; لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما ، لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين : إما حصول ريبة في شهادتهما ، وإما الاطلاع على خيانتهما; فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين ، أو الأشياء . فالمعنى ما تقدم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي ، أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم ، فتسقط أيمانهم ولا تقبل . قال ابن عباس : ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل; لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ، ثم يخافون الفضيحة ، ورد اليمين انتهى . وقيل : ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس . وقيل : إلى الحبس بعد الصلاة فقط . قال ابن عطية : ويظهر هذا من كلام السدي ، وأول على هذا التأويل بمنزلة قولك : تحبني يا زيد ، أو تسخطني ، كأنك قلت : وإلا أسخطتني ، فكذلك معنى الآية ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان ) . وأما على مذهب ابن عباس ; فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا ، أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى . فتلخص أن ( أو ) تكون على بابها ، أو تكون بمعنى الواو . و ( يخافوا ) معطوف في هذين الوجهين على ( يأتوا ) ، أو يكون بمعنى إلى أن ، كقولك لألزمنك ، أو تقضيني حقي ، وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن ، فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين . إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو ( يأتوا ) ، لكنه يكون على مصدر متوهم ، وذلك على ما تقرر في علم العربية . وجمع الضمير في يأتوا وما بعده ، وإن كان السابق مثنى ، فقيل : هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع . وقيل : لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما ، بل إلى الناس الشهود ، والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة ، فيشهدوا بالحق; خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي .

( واتقوا الله واسمعوا ) أي احذروا عقاب الله تعالى ، واتخذوا وقاية منه ، بأن لا تخونوا ، ولا تحلفوا به كاذبين ، وأدوا الأمانة إلى أهلها ، واسمعوا سماع إجابة وقبول .

( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) إشارة إلى من حرف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله ، فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام ، والمعنى اشتراط انتفاء التوبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية